قرأتُ مؤخرا رسالة ماجستير بعنوان “تَسَول المرأة اللاجئة السورية في المجتمع الجزائري: دراسة ميدانية لعينة من اللاجئات السوريات في كل من ولايتي الجزائر العاصمة وعين الدفلى”. أَعَدَّت الرسالةَ طالبتان جزائريتان في “جامعة الجيلاني بونعامة بخميس مليانة” سنة 2016 تحت إشراف نسيسة فاطمة الزهراء.
وقد أثار العنوان غضبَ كثير من السوريين وغيرهم من دون أدنى استعداد لمناقشة الفكرة، ويرجع هذا الغضب لعوامل عدة؛ ربما يُحيل بعضها إلى حساسية وطنية أزعجها أن يكون تسول سوريات موضوعَ دراسة، ولكن لا بد من التمييز بين مستويين: الأول: مستوى البحث الاجتماعي الذي من وظائفه أن يُخضع مجتمعا معينا أو ظاهرة محددة للدراسة والتحليل، والثاني: مستوى الحساسيات الوطنية الضيقة التي تحيل إلى وطنية غائمة وُلدت مع ولادة ما سُمي بالدولة الوطنية التي ورثت الاستعمار وحددت وطنيتها بمعنى سالب أكثر منه إيجابي، ثم تحولت إلى وطنية رثة مع أنظمة قمعية لا تعترف بالمواطن الإنسان صاحب الحقوق والإرادة الحرة.
وبعيدا عن ردود الأفعال التي رفض عدد منها حتى مناقشة محتوى الرسالة؛ اكتفاء بعنوانها، فإننا لو عدنا إلى عنوان الرسالة ومضمونها سنجدها تعكس مأزقا مزدوجا: معرفيا وأخلاقيا، وسأخصص هذا المقال لتوضيح أن نقدي هنا لا يتوجه إلى مبدأ دراسة ظاهرة التسول لدى المنتمين إلى جنسية معينة بل إلى منهج معالجتها، وهو ما يعكس جوهر الإشكال هنا.
يتخلص الإشكال المعرفي هنا في عدة نقاط:
أولها: أن موضوع التسول هنا لا يُدرَس تحت علم الاجتماع العام، فالرسالة أُعدت لنيل درجة الماجستير ضمن “سوسيولوجيا العنف والعلم الجنائي”، ودراسة ظاهرة التسول تحت هذا التخصص محل إشكال شديد وكان على المشرفة أن توجه الطالبتين إلى معالجته وتسويغه وتوضيح الصلة بين الموضوع وظاهرة العنف خصوصا أنها ظاهرة إشكالية، والصلة بين العنف والتسول شديدة الوهن والالتباس، خصوصا أن التسول لا يمت إلى العلم الجنائي بصلة.
ثانيها: مجال الدراسة كان ضيقا جدا؛ “٨” حالات، وهذا غيرُ كاف من الناحية البحثية؛ لأن شرط العينة أن تكون ممثِّلة إما للظاهرة أو للمجتمع محل البحث، وجزء من ردود الأفعال الغاضبة يرجع إلى إيهام موضوع الدراسة أنها تدرس ما يمثّل اللاجئات السوريات، ولا يوجد في الرسالة أي معطيات علمية تُثبت هذا الادعاء؛ ما يعني أنها تعاني من خلل جوهري، فهي لا تقدم إطارا نظريا يحدد طريقة اختيار العينة، كما لا تعتني بذكر أي إحصاءات علمية للظاهرة المدروسة، وفي محصلة الأمر تتحدث عن ثماني نسوة فقط وفي مدينتين كثيفتين سكانيا!
ثالثها: تقوم الدراسة على فرضيتين: أثر غياب العائل والبعد الاقتصادي (الفقر، البطالة…) على التسول، ولكنها تفتقر إلى تحليل عميق لهذين البعدين في إطار أوسع من العينة (الحالات الثمانية)، وكان على المشرفة أن توجه الطالبتين إلى دراسة الظاهرة في سياق أوسع، وهو إطار المجتمع والثقافة الأصلية والمحلية والبحث عن المؤثرات خصوصا أن الدراسة لا تقدم لنا أي معنى لاختيار “اللاجئات السوريات” تحديدا: فلماذا النساء؟ ولماذا السوريات؟ وما صلة هذا باللاجئين واللاجئات من جنسيات أخرى؟ ولماذا تقارن بين وضع اللاجئين السوريين في الجزائر بوضع اللاجئين السوريين في دول أخرى؟ وهل يوجد في الجزائر ظاهرة تسول من أبناء البلد أنفسهم؟ ما الفوارق وأوجه التشابه؟ وما دلالات هذا التخصيص من الناحية البحثية؟
التساؤلات السابقة تساؤلات منهجية لا يليق بدراسة أن تخلو من الإجابة عنها. ومن الطريف أن الرسالة أشارت إشارة عابرة إلى أن جزائريات يقلدن سوريات في اللهجة والتسول، وكان من صلب موضوع الرسالة أن تدرس هذا ولكنها لم تفعل، كما كان عليها أن تدرس فرضية “استغلال” المحنة السورية من قبل بعض المتسولين من السوريين وغيرهم؛ لأن المحن أَدعى لاستدرار عطف الناس والتكسب.
رابعها: اتسمت الرسالة بضيق أفق التفكير، وأخذت طابعا تقنيا بدائيا، فلم توضح مشكلتها البحثية وهي مشكلة مركبة لها أبعاد اجتماعية وسياسية، خصوصا أنها قُدمت ضمن تخصص “العنف والعلم الجنائي”، ومن ثم لم تُشر من قريب أو بعيد إلى مسؤوليات الجزائر كدولة تجاه هذه الظاهرة -إن سلمنا بكونها ظاهرة- ونتائج فشل سياستها في احتواء اللاجئين ودورها في بروز ظاهرة التسول في الجزائر.
خامسها: كان على الدراسة أن تقارن وضع اللاجئين المتسولين بوضع اللاجئين غير المتسولين للوقوف على أسباب التسول وحجم ظاهرة المتسولين بالنسبة إلى بقية اللاجئين، ولماذا اللجوء إلى بلد مثل الجزائر يولّد ظاهرة التسول بينما اللجوء إلى دولة مثل ألمانيا يحفظ حقوق اللاجئين ويقدم لهم امتيازات لا تتوفر لغيرهم؟
سادسها: فشلت هذه الرسالة في بحث الظاهرة فشلا ذريعا؛ إذ قدمت معالجة مشوهة لموضوع غائم تدور حوله تساؤلات عديدة ويتسم بأبعاد مركبة، كما فشلت بعض الفتاوى في معالجة مشاكل المِحنة السورية إذ لم تدرك أن الفتوى لا يمكن أن تقدم حلا ناجزا لمشكلة معقدة، وأن أي حل يجب أن يقوم على أبحاث اجتماعية تتوفر لها الشروط العلمية اللازمة عبر دراسة حالات وتقديم إحصاءات وتحليل وبحث واف، ثم بعد ذلك يمكن بناء مشاريع مؤسسية لمعالجة المأزق بعيدا عن شخصنة فكرة الزواج ممن لا عائل لها باعتباره الحل الأمثل والأسهل.
أما الإشكال الأخلاقي الذي تثيره مثل هذه الرسالة فيتخلص في الآتي:
أولا: العنوان المطروح هنا يثير مشكلة كبيرة تتعلق بموقف سلبي من اللاجئين؛ لأنه يوهم التعميم الذي له انعكاسات أخلاقية واجتماعية سلبية، وخاصة بالنسبة للمرأة السورية اللاجئة في الجزائر.
ثانيا: من اللافت تلك المفارقة لو قارنا بين نوع التفكير الذي تمثله هذه الرسالة تجاه ظاهرة لجوء سوريين إلى الجزائر وبين نوعٍ آخر من التفكير شاع تجاه ترحيب ألمانيا باستقبال الكثير من اللاجئين السوريين، ففي حالة الجزائر نحن أمام معالجة غير علمية وغير أخلاقية من قبل الدولة ومن قبل الطالبتين والمشرفة، وفي حالة ألمانيا حرص البعض على البحث عن تفسيرات غير أخلاقية لصنيع ألمانيا بحجة أنها لم تفعل ذلك لدوافع أخلاقية وإنما لمصالح وطنية واقتصادية!
إن الظواهر غير الأخلاقية في مسألة اللجوء هي أعراض لغياب سياسات رشيدة للدولة، ولغياب أخلاقيات التعامل من قبل المجتمع الذي يتم اللجوء إليه، والغريب أننا نجابه مفرزات اللجوء بطرائق غير أخلاقية كما في حالتي الجزائر وألمانيا هنا، ومن الطريف أن معالجاتنا لبعض مشكلات المحنة السورية فردية (الزواج ممن لا عائل لها أو الصدقة الفردية…)، بينما تتسم معالجات الدول المحترمة بوضع سياسات مؤسسية وحقوقية كما هو الحال في ألمانيا والسويد مثلا.
وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى غياب أي تنظير إسلامي (فقهي أو غيره) لمسألة اللجوء وحقوق اللاجئين؛ وهو جزء من هامشية البعد الإنساني في تفكير الإسلاميين لصالح غلبة التسييس والصراع على الدولة والسلطة، بالرغم من أن مفهوم “اللجوء” هو نتاج فكرة الدولة الوطنية التي تَحدها حدود جغرافية معينة ومحكومة بمبدأ المواطنة، ومن هنا يكتسب اللجوء بأنواعه: الإنساني والسياسي أبعادا يجب أن يتم تأملها من منطق فكرة الدولة، ولكنها في الوقت نفسه تثير إشكالات أخلاقية؛ لأنها تغيب فيها فكرة المساواة بين المواطن وغير المواطن، الأمر الذي يُخل بفكرة “حقوق الإنسان” التي تعمل في منطق الدولة الحديثة وفق حدود المواطنة لا وفق حدود الإنسانية.
ومن هنا برزت الحاجة إلى قوانين لجوء لسد الثغرات الأخلاقية التي تَحف بغير المواطنين الذين لا يتمتعون بحقوق إنسانية مساوية للمواطنين؛ رغم تساوي الطرفين في الإنسانية، وفي المقابل فإن مشكلة اللاجئين عامة في البلدان العربية والإسلامية (سواءٌ منهم من استقبل لاجئين أم من يرفض استقبالهم أصلا) هي جزء من المأزق الأخلاقي الذي تعاني منه دولنا؛ لأنها دول لا تعترف بحقوق للمواطنين نتيجة فشل قيام الدولة الحديثة في عالمنا العربي والإسلامي، فمن باب أولى ألا يتمتع اللاجئون بأي حقوق، بل أن يتعرضوا لأنواع من الاضطهاد والمهانة؛ لأنهم في وضع هش وضعيف!