إن النفاق وأعماله من أبشع الخصال حذرت الشريعة منها بنصوصها وتعاليمها وإرشاداتها ، وبينت أوصاف النفاق حتى يتعرف المسلم على موقعه منها، فيتحذر من التلبس بها أو إصابة شيء منها، وكان من أظهر خصال النفاق إساءة الظن، والتهمة في الدين دون التثبت والتبين، وبدون سلطان علمي أو قضائي يقتضيها، لا سيما إذا كان المتهم بريئا، حتى لو تعرض لموضع الشبهة، فإن العاقل المسلم لا يطلق قولا أو يرمي بأذى من غير حجة ثابتة.

لذلك كان من حقوق المسلم على المسلم أن يحسن الظن بأخيه،  ويستر عورته، ويغفر زلته، ويرحم عبرته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويجيب دعوته.. ويواليه، ولا يعاديه، وينصره على ظالمه، ويكفه عن ظلمه غيره، ولا يسلمه، ولا يخذله، ويحب له ما يحب لنفسه. وإن فعل هذا فقد حقق النصيحة في قوله صلى الله عليه وسلم “الدين النصيحة”، لأن مدار الدين والإسلام عليها. [ابن مفلح، الآداب الشرعية (1/290) ].

بالإضافة إلى أن التثبت وتقصي الأمور والوقوف على البراهين قبل إطلاق قول أو القيام بتصرف دليل على رصانة الفكر واعتدال العقل، فإن مهمة العقل أن يزن الأمور بين مصالحها ومفاسدها، ويتبصر في مدارك الأمور ومآلاتها، قبل الإقدام عليها، وإن التسرع في إطلاق القول أو الحكم على  الشيء دليل على اختلال الفكر وضعف الإدراك، وهذا ما استقر في عادات الخلق، وشهد له ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وصف الأشج عبد القيس بالحلم والأناة، فقال عنه: “إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله.. الحلم والأناة”. هذه الخصلتان دلالة على اتزان النظر، وسداد الحكم لأنهما يتنافيان مع التهور الذي يؤدي إلى السفاهة.

وقد أحسن جرير حين قال:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم … إني أخاف عليكم أن أغضبا

ولنا في هذا المقام وقفة مع آية عظيمة نتفيأ في هذا الشهر المبارك ظلالها، ونتأمل معانيها، وننزل بعض فوائدها التربوية على أوضاعنا، يقول المولى سبحانه: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) [النساء: 148 149].

تدل هذه الآية الكريمة على النهي من المجازفة في إلصاق الحكم بمجرد الظن والجهر بذلك، بدون علم. وقد استشهد ابن عاشور في تفسير هذه الآية حديث البخاري: أن رجالا اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: أين مالك بن الدخشم، فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله: «لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله، فقال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين».

فإن القائل قد أطلق ظنه في مالك بن الدخشم لشبهة تردده على المنافقين، وتودده إليهم، فظن به نفاقا بما ليس فيه، فعدله رسول الله إلى ما كان أولى له.

وهذه الرواية – وإن كان ابن عاشور لم يرها سبب نزول الآية – وغيرها من الروايات التي أتت في كتب التفسير تعتبر روايات تفسيرية للآية تفيد القارئ في حسن تصور المراد من الآية.

– وإن الشارع قد نهى بهذه الآية عن الجهر بالقول بالسوء، والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس، فيشمل الكذب والتهمة والقذف وكل قول بذيئ، يسيئ على المسلم، ويبنى على إثره حكم جائر. وهذا النهي لا ينحصر على الجهر بالقول السيء فقط، بل يتعدى من باب أولى إلى الجهر بالسوء عن طريق الفعل، يقول ابن عاشور:  وتقييده بالقول لأنه أضعف أنواع الأذى، فيعلم أن السوء من الفعل أشد تحريما.

– واقتضت حكمة الشارع استثناء المظلوم الذي يمتلك حق المطالبة بظلامته من النهي العام، فرخص الله للمظلوم الجهر بالسوء من القول ليشفي غضبه، دون إيعازه إلى التشفي بالسيف أو البطش، وهذا يتوافق مع روح الشريعة أن ضمن للمظلوم حقه في الدفاع عن عرضه ودينه بما ليس فيه تجاوز وتعد، وأذن له الشارع في الجهر بالتظلم، ومن ذلك الدعاء على الظالم جهرا لأن الدعاء عليه إعلان بظلمه، وإحالته على عدل الله تعالى.

– وبعد النهي عن الجهر بالسوء قولا وفعلا، والترخيص للمظلوم أن يسعى في رفع ظلامته، حتى لو اقتضى ذلك الجهر والإعلان، ندب الله المرخص لهم – وهو المظلوم – إلى العفو وقول الخير. وهذا من حكمة الشارع أنه يأمر بالعدل ويندب إلى الفضل لمن يطيق ذلك، فالعفو عند المقدرة مطلب شرعي لرفع درجات المظلوم، ولكن يأتي هذا على أعقاب المبدأ الأصلي وهو رد الظلم ومنعه، والتقاضي فيه، فلا يطغى جانب الفضل على حساب العدل لا سيما إذا جر الظلم ويلات على الشعوب والدول. بل المطلوب قطع هذا الإيذاء من بدايته، فهو أسلم للأمة، وإن اقتضى ذلك التناصر والتآزر بين جماعات المسلمين وأفرادهم.

والواقع المرير الذي تشهده الأمة اليوم ينبه كل حليم أن الإذن بالجهر بالسوء من القول أو الظن بالسوء يخالف هذا المبدأ السامي، ويعارض التربية الإلهية، فإن الإعلامي حين لا يحسب لكلامه وزنا ويطلق عنان لسانه فإنه واقع في المخالفات الشرعية، والعالم الذي لا يقف مع المظلوم احتسابا فإنه يعارض الأوامر الشرعية، وكيف لو صادر حق المظلوم بفتواه ومكانته!