حينما كدنا نفقد التعمق استحلينا السطوح ! فكان ما كان من ميل مفرط نحو الرذيلة وسهو عن سمو الغايات بالسكر الحسي والمعنوي والتعتيم الإعلامي والتغرير وسوء التدبير مع التبذير، مع تعميم وتعويم الكذب والأراجيف على كل المستويات من غير رقيب ولا حسيب.
كل ذلك لأننا ضربنا بعرض الحائط مركز القيم وجرينا وراء السراب وأوهام الحداثة والحرية العابثة والخبيثة في استهلاك القول والفعل والطاقة والبيئة، فأصبح حالنا طبقا لما نهانا الله تعالى عنه: ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”. حتى أصبح الحديث عن الفضيلة والسلوك المنضبط اللائق بالإنسان المكرم يعد ضربا من التخلف والرجعية والماضي المتخلف والمنتهي.
وفي زمن الهلع والجزع والشرود والخوف من جزيء اسمه “كورونا المستجد” ،غائب عن الأنظار قد فرض مبادئه بالقوة، نأبى ويأبى تكويننا إلا نستجد بدورنا و نذكر بهذا الموروث الخالد لعلمائنا الأفذاذ، بناة الحضارات ومنظري الطب بكل شقيه المادي والمعنوي الروحي من بينهم أبو محمد علي بن حزم الأندلسي المفكر والفيلسوف والفقيه والمؤرخ، الغني عن التعريف عند أهل المعرفة.
أ – الطمع كمحرك عام وطاقة بديلة
فمن خلال وقفة سريعة مع كتاب :”الأخلاق والسير في مداواة النفوس” نجد أن موضوع الحب عند ابن حزم ليس موضوعا عاطفيا ضيقا كما قد يتوهم بعض الدارسين من خلال اطلاعهم على كتاب “طوق الحمامة” فقط ، وذلك لغلبة تعرضه فيه إلى دراسة هذا الموضوع من الناحية الجنسية، أي الحب الذي يكون بين رجل وامرأة أكثر من جوانبه الأخرى.
بل إن الدراسة لديه هنا قد كانت أوسع مجالا وأدق عمقا، إذ الحب في تصوره ليس محصورا في صورة ضيقة وإنما هو جنس شامل لكل أنواع المحبة، وما الحب الجنسي أو إلا فرع بسيط من ذلك الحب الشامل الكلي.
هذا الحب قد يحركه مبدأ ثابت في النفس الإنسانية هو الطمع، الدافع للإنسان نحو الاكتساب و التحاب.
فبحسب قوة أو ضعف هذا الطمع يتشكل بصورته هذا الحب ويتسامي بسمو غرضه وأهدافه أو ينحط ويخس. “وإنما اختلفت الأغراض من أجل اختلاف الأطماع وتزيدها وضعفها أو انحسامها فتكون المحبة لله عز وجل وفيه، وللاتفاق على بعض المطالب وللأب والابن والقربة والصديق والسلطان ولذات الفراش وللمحسن وللمأمول والمعشوق، فهذا كله جنس واحد اختلفت أنواعه على قدر الطمع في ما ينال من المحبوب، فلذلك اختلفت وجوه المحبة، وقد رأينا من مات أسفا على ولده كما يموت العاشق أسفا على معشوقه، وبلغنا من شهق من خوف الله تعالى ومحبته فمات”[1].
فالطمع هو مصدر الحركة لدى الإنسان وبحسبه يتحدد هذا السلوك أو ذاك، بحيث قد يمكن تفسيره بالرغبة المحركة نحو الشيء لتحقيق متطلبات الحاجة، والتي إذا لم يعمل على سدها فستولد كبتا وصراعا داخليا يتمثل في التضارب بين الإقدام والإحجام، ومن ثم يتكون لدى الإنسان الهم الذي هو عبارة عن كآبة وحزن وقلق كأمراض دفينة ومحطمة للشعور بالسعادة .
فقد يزداد هذا الهم ومشتقاته على قدر حصول الإنسان على متطلباته، وهي متشابكة بل متعارضة إذا جاوزت حدودها المرسومة لها ،وفي وجود هذا الطمع وملازمته للهم إذا لم يتحقق دليل نقص هو: افتقاره إلى الكمال، لهذا فهو في كل حالاته ونشاطه النفسي والمادي يسعى إلى طرد الهم.
ب- طرد الهم أو القلق النفسي الغريزي
إن ابن حزم قد توصل إلى نتائج بخصوص الغاية من النشاط الإنساني كما حدد سابقا الدافع له والوسيلة لتحقيقها.
فإذا كان الحب وسيلة لتحقيق الطمع فهناك غاية وراءه،ألا وهي: طرد الهم كمطلب ضروري وقانون يحتاج إليه كل البشر.
هذه الغاية ليست وليدة الفكرة الخاطفة أو النظر العابرة وإنما هي دراسة تحليلية متأنية للنفس الإنسانية وملاحظة ميدانية لتصرف المجتمع على اختلاف طبقاته ومذاهبه، ومن ثم خرج بنتيجة محددة في هذه القاعدة التي يقول فيها: “طلبت غرضا يستوي الناس كلهم في استحسانه وفي طلبه فلم أجده إلا واحدا وهو طرد الهم، فلما تدبرته علمت أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم وتباين هممهم و إراداتهم لا يتحركون حركة أصلا إلا فيما يرجون به طرد الهم، ولا ينطقون بكلمة أصلا إلا فيما يعانون من إزاحته عن أنفسهم، فمن مخطئ وجه سبيله ومن مقارب للخطأ ومن مصيب وهو الأقل في الأقل من أموره”.
بعد هذا الاكتشاف الذي توصل إليه من حيث تحديد القانون النفسي العام سيشرع في تحديد أنواع الهموم والحلول الجزئية التي قد يلجأ إليها أكثر الناس.
لكن الحل الجزئي غير كفيل باستيعاب المشكلة الكلية لأنه تناقض وقصور، ومن ثم فلا بد من الحل الأصلي لهذا القلق النفسي الذي يتحكم في كل أصناف البشر على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم الاجتماعية.
يقول عن هذا الحل والعلاج الناجع: “بحثت عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس، الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له، فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز جل بالعمل للآخرة، وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم وإنما طلب الصوت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها، وإنما طلب اللذات من طلبها ليطرد بها عن نفسه هم فوتها وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل، وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه، وإنما أكل من أكل، وشرب من شرب ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب واكتن من اكتن وركب من ركب …ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الفعال وسائر الهموم”[2].
بهذا فقد كثرت الهموم بكثرة المطامع، إذ هي “أصل لكل ذل ولكل هم” و “الهم أصل للطمع في حالة واحدة وهي طرد الهم”.
وأهم علاج طارد للهم هو: محبة الله تعالى والعمل للآخرة، وهي كفيلة بأن تحقق للإنسان كل ما يصبو إليه من طرد للهم وتحقيق للسعادة والهناء، ومحبة الله هي أعلى الغايات وأشرفها على الإطلاق، الشيء الذي يجعل منها المحرك الأساسي لبذل الجهود من أجل الحصول على الاستقرار والتخلص من الهموم المهددة لكيان الإنسان.
ولهذا فلا ينبغي للإنسان أن يذل نفسه إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله عز وجل، في دعاء إلى الحق وفي حماية للحريم وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك تعالى وفي نصر للمظلوم، وباذل نفسه في عرض الدنيا كبائع الياقوت بالحصى!”[3].
محبة الله تعالى تتمثل في الحظوظ منه والرفعة لديه والزلفة عنده[4] وهي تقف عند هذه الحدود ولا تتجاوزها، لأنها محبة الروح وامتثال الأوامر واجتناب النواهي، ولهذا فهي محبة من نوع خاص لا تشبه تلك التي بين المخلوقات ،بعضهم لبعض، في شيء سوى في دافع الطمع الذي هو المحرك الأساسي للإنسان نحو أهدافه المزيلة للهم العالق بالنفس. فهل نحن مستعدون للرقي بهذا الحب وترسيخه وتعميمه حتى يستقيم حال البشرية استقامة حقيقية وليست إعلامية زائفة أو سياسية مستنكفة أو اقتصادية مستهترة؟
كل له خياره و” إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ”.
[1] ابن حزم:الأخلاق والسير ص51
[2] نفس ص15
[3] نفس ص 53
[4] نفس ص51