أخيرا وبعد طول انتظار، انتصرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، انتصرت للمقدسات الدينية، وأصدرت حكمها التاريخي أنّ الإساءة للرسول محمد -- لا تندرج ضمن حرية التعبير.

أصل القضية

تعود أحداث الواقعة إلى عام 2009م، حينما عقدت سيدة  نمساوية ندوتين تحدثت خلالهما عن زيجات الرسول ، واشتملت الندوتان على الطعن في النبي محمد والاستهزاء به والسخرية منه.

تم الالتجاء إلى المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا للفصل : هل هذا الطعن في النبي محمد يدخل في حرية التعبير، فيكون من حق هذه السيدة النمساوية وغيرها الطعن في النبي محمد ، أم أن هذا يعد تجاوزا لحدود الحرية المكفولة للأشخاص، ويدخل ضمن نطاق الاستهزاء المجرم مراعاة لمشاعر المسلمين الذين يؤمنون بنبوة ورسالة محمد بن عبد الله، وبوجوب احترامه وإجلاله!

إدانة محلية

أصدرت المحكمة الجنائية الإقليمية في فيينا في 15 فبراير2011 حكمها بأن هذه التصريحات المسيئة التي أطلقتها السيدة النمساوية “تهين المعتقدات الدينية”، كما قضت المحكمة بتغريمها 480 يورو، إضافة إلى مصاريف التقاضي.

وأيدت القرار محكمة الاستئناف في ديسمبر من العام ذاته، بعد أن طالبت السيدة بالاستئناف على الحكم.

 

الأوروبية تؤيد

إلى هذا الحد، ظل هذا الحكم محليا محدودا بأسوار النمسا حتى أيدته الخميس الماضي 25- أكتوبر 2018، المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، وقررت أن الطعن في النبي محمد لا يدخل ضمن الحرية الشخصية.

واعتبرت المحكمة الأوروبية أنّ تصريحات السيدة النمساوية “تجاوزت الحد المسموح به في النقاش، وتصنف كهجوم مسيء على رسول الإسلام، كما تعرض السلام الديني للخطر”.

وثمَّنت المحكمة الأوروبية الحكم الصادر من محكمة فيينا قائلة : ” إن المحاكم المحلية (في النمسا) قامت بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، والحفاظ على السلام الديني في النمسا.

الإسلام يسبق

هذا الجدل التاريخي الذي يصدره الخطاب العلماني أن الطعن والاستهزاء بعقائد الآخرين يدخل ضمن الحرية الشخصية حتى لو وصل المساس بالرسل والأنبياء والذات الإلهية، وعدم استيعابهم وجود خطوط فاصلة بين الحرية الشخصية وبين مراعاة مشاعر الآخرين في احترامهم لمقدساتهم….. هذا الجدل قدم له الإسلام التصور الصحيح  منذ ألف وأربعمائة سنة، وهو التصور ذاته الذي وصلت إليه المحكمة الأوروبية اليوم.

وذلك بالتفرقة بين الحرية الشخصية وبين الطعن في عقائد الآخرين وازدراء أديانهم، قال الله تعالى : {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة:12] فالآية تعطي الحق لغير المسلمين أن يمارسوا شعائرهم الباطلة في ميزان الإسلام، لكنها تضع سقفا لهذه الحرية، وهو ( الطعن في الدين).

وبهذا اتفقت كلمة علماء المسلمين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

“وإظهار الطعن في الدين لا يجوز للإمام أن يعاهدهم مع وجوده منهم؛ أعني مع كونهم ممكَّنين من فِعلِه إذا أرادوا. وهذا مما أجمع المسلمون عليه؛ ولهذا بعضهم يعاقِبون على فعله بالتعزير. وأكثرهم يعاقِبون عليه بالقتل. وهو مما لا يشك فيه مسلم؛ ومن شك فيه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه”. [الصارم المسلول على شاتم الرسول، ابن تيمية (ص: 215) ]

وجاء في كتاب الحنابلة : ” وكذا يمنعون مما يتأذى المسلمون به كإظهار المنكر من الخمر والخنزير”. الآداب الشرعية والمنح المرعية، ابن مفلح (1/ 188)

فقدم الإسلام للمسلمين منطق المغايرة بين المسموح به والممنوع منه، وصاغ الفقهاء على أساسه أحكامهم، فجعلوا الضابط العام : أن المواطنين غير المسلمين- أهل الذمة– يسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية وغيرها، ولا يمنعون إلا مبما يؤذي مشاعر المسلمين الدينية كالاستهزاء بالرسول محمد . فهذا هو الضابط العام الذي انطلق منه الفقهاء، وإن تباينوا في  فهمه توسعة وتضييقا بحسب مدارسهم ومشاربهم الدلالية. وهذا ما وصلت إليه المحكمة اليوم؛ لتدل على أنه لا أفضل ولا أقوم مما جاء به الإسلام من قواعد العيش المشترك بين الفرقاء!