تُعدُّ المدينة المنوّرة مَحَطّةً فريدة في التاريخ الإسلامي، فهي مهبط الوحي وأولى عواصم الدولة الإسلامية. ومنذ قرون مديدة شكّل انطباع الرحّالة والمستشرقين الغربيّين عن المدينة المنوّرة انعكاسًا لصورة “الشرق” في الوعي الأوروبي، متضمّنًا دقّة وصفية واجتهادات منهجية وأخطاء معرفية أحيانًا. في كتابه هذا، يجمع د. عدنان اليافي بين التحليل المنهجي لأدبيات الاستشراق ونبض الرحلات العربية والإسلامية، ليقدّم قراءةً شاملة تمتدُّ من نشأة الاستشراق إلى توصيف الرحّالة للمدينة عبر خمسة قرون.
أسس الاستشراق ومداخل الدراسة
يُعرّف هذا القسم مصطلح الاستشراق لغويًّا ومنهجيًّا، ويستعرض مراحل نشأته وتطوّره بدءًا من القرنين السابع عشر والثامن عشر، مع التركيز على الرياح الفكرية والاجتماعية التي دفعت الأوروبيين إلى “شرق” العناية بنقل مشاهداتهم. ويُحدّد دوافع الرحّالة (الحجّ، التجارة، الفضول العلمي)، كما يوضّح المداخل البحثية (تاريخية، لغوية، أنثروبولوجية) اللازمة لفهم الإشكاليات المنهجية عند دراسة كتب الرحّالة والمستشرقين.

المدخلات الموضوعية للكتاب
يرسم المؤلف في هذا الباب خارطة الطريق لمحتوى الكتاب:
- “الإنسان والرحلة” : العلاقة بين خلفيات الرحّالة وأهدافهم، وكيف انعكس ذلك على سلوكياتهم ووصفهم.
- ” أغراض الرحلة “: التمييز بين الرحلات الدينية (الحجّ) والرحلات العلمية/الأدبية والتجارية.
- “رحلات الأنبياء والرسل ﷺ ” : رحلة الهجرة النبوية كنموذج أولي لرحلة روحية وشعائرية أسّست لمعالم المدينة.
المدينة المنوّرة: الأسماء والجغرافيا والتاريخ القديم
يسلّط هذا القسم الضوء على الجذور السيميائية والجغرافية للمدينة المنوّرة، إذ تنبع أهميتها من تعدّد ألقابها وتنوّع تضاريسها وعلاقاتها مع حضارات ما قبل الإسلام.
أسماء المدينة
- يثرب: الاسم الجاهلي الوارد في القرآن ، قال تعالى : { قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ۚ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا } (الأحزاب: 13)
- المدينة: الاسم المتداول بعد الهجرة { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ } (التوبة: 120).
- طيبة/طابة/الإيمان/الدار… وغيرها من الألقاب النبوية والقرآنية.
الموقع والتضاريس:
تقع في سهلٍ يحيط به جبل أحد من الشمال. وجود دلائل على وجود آبار وقنوات (بئر الغَرس) وآثار طرق القوافل.
تاريخ يثرب قبل الإسلام
- ذكر المؤلف بإسهاب عن تاريخ يثرب قبل الإسلام ومن ذلك :
- إسهام اليهود في بناء بعض الأحياء
- دور الأوس والخزرج.
- علاقات يثرب بدولة معين ومملكة سبأ.
- تبادل تجاري وثقافي مع الكلدانيين والرومان.

انتقال المدينة من ما قبل الإسلام إلى صدر الدولة الإسلامية
يتابع هذا الفصل مسار تحوّل المدينة المنوّرة من يثرب الشتويّ الزراعيِّ إلى قلبٍ نابضٍ بالدولة الإسلامية بعد الهجرة.
الهجرة النبوية الشريفة: ظروفها والقرابة العقدية بين المدينة والمهاجرين.
المسجد النبوي الشريف
بناء المسجد الأول بأيدي الصحابة.
زيادات الخلفاء: أبو بكر، عمر (المنبر والقبلة)، عثمان (توسعة الحدود)، الوليد، المهدي.
سكن الرسول ﷺ وأصحابه بالمدينة: دور المسجد والجوار في الحياة اليومية.
المساحة والسكان
وفي هذا الفصل تطرق المؤلف للنقاط التالية :
حدود المدينة آنذاك وتطوّرها.
تعداد السكان ومكوناتهم الاجتماعية.
المناخ والفضائل: تأثرها بمواسم الأمطار وذكرها في النصوص الشرعية.
العصور الإسلامية والنهضة العمرانية
تستعرض هذه الفصول مظاهر الاهتمام الحضاري بالمدينة عبر العهود، وكيف جُدّدت وتوسّعت مرافقها الدينية والإدارية.
بداية منذ أولى محاولات التنظيم العمراني وصيانة الحرم في العصر الأموي وصولا إلى العهد الفاطمي، ثم إلى مرحلة بناء المدارس والزوايا المحيطة بالمسجد في العهدين الأيوبي والمملوكي، ثم انتقل إلى العهد العثماني توسعة المسجد وتنظيم شؤون الحجاج، وانتهاء بالعهد السعودي وما حصل من مشروعات ترميمية، شبكة طرق، وتوفير خدمات الحج المعاصرة.
المدينة المنوّرة في أدبيات الرحّالة
يجمع هذا الفصل نصوصَ رحّالة عرب وغربيين ليبيّن أوجه الاتفاق والاختلاف في تصوير المدينة عبر العصور.
وذكر نماذج من الرحّالة العرب مثل : ابن جبير (578–581هـ) ، ابن بطوطة (725–755هـ) والتجيبي، البلوي، الصفدي، القلصادي، البكري، القيسي، العياشي، الهشتوكي، الناصري، النابلسي، الزبادي، السويدي، ابن عبد السلام، التامراوي، إدريس العلوي، ابن كيران.
وقارن المؤلف بين توثيقهم الروحي والفقهي للكعبة والمسجد النبوي وطبيعة إجراءات الحجّ آنذاك.
ثم ذكر أهم الرحّالة الغربيين ومنهم :
- لودفيكو دي فارثيما (1503م) جاء في وصفه للمدينة بـ“300 منزلٍ محاطة بسور طيني” وبستان نخيل بقناة منحدرة أربعاً وعشرين درجة.
- جوزيف بتس وجون لويس بيركهارت (1815م) : وكتبا عن الضاحية وحالة “المزورين” ومآسي نقص المؤن والطحين والزبدة والفحم. واللقاء بطبيب الطوسون باشا وتفاصيل السوق.
ريتشارد برتون (1853م): وصفه الشعري لجبل أحد وبساتين قباء وضباب الصباح. كما وصف بوابة العنبرية وقصر الحاكم والتكية العثمانية والقبة الخضراء.
كذلك سرد المؤلف نمذاج آخرين لرحالة غربيينمنهم : سادلير، ليون روش، هاري سانت جون فيلبي، إيفلين كوبولد، محمد أسد.
زبيّنت الكتابات الغربية مجموعة من الصدق الوصفي وأخطاء الخلفية الثقافية والدينية، فرغم بعض المغالطات قدموا موادا قيمة للباحثين.

الأبيات الشعرية في مدح المدينة
يختتم المؤلف بالعشرات من الأبيات التي خلدها الشعراء في فضل المدينة المنوّرة، مما يربط بين الرواية التاريخية والهمّ الثقافي والشعري.
الفهارس والملاحق
حرص المؤلف على إعداد خمسة فهارس تسهل التصفّح والبحث:
فهرس الموضوعات
فهرس الأعلام
فهرس الأماكن
فهرس الصور والوثائق
فهرس الخرائط
الخاتمة
يضع د. عدنان اليافي هذا الكتاب مرجعًا معمّقًا لدراسة صورة المدينة المنوّرة في الوعي الأوروبي والإسلامي، مستفيدًا من المنهج النقدي ومستند إلى نصوص المستشرقين والرحّالة العرب على حدّ سواء. إن الجمع بين التحليل المنهجي والاستدلال التاريخي يجعل من هذا العمل إضافةً ضرورية لكل باحث في تاريخ المدينة المنوّرة ودراسات الاستشراق.
معلومات الكتاب
- اسم الكتاب: المدينة المنورة في أعين رحالة غربيين
- اسم المؤلف: عدنان عبدالبديع اليافي
- الطبعة الأولى: 1433هـ/2012م – جدة السعودية
- تاريخ النشر: 1433هـ / 2012 م
- عدد الصفحات: 340