“عندما تخرج من مرجعية فكرية لمرجعية فكرية أخرى تمر بمرحلة لا تكون هذه فقدت وجاهتها تماما ولا تلك اكتملت جاذبيتها لك فتصبح كأنك بين جاذبية كوكبين وفي هذه اللحظة أيقنت كمؤمن أن هداية الله هي الحل والفيصل” هكذا تحدث المفكر والقاضي طارق البشري عن مراجعته الفكرية، وانتقاله من مرجعية إلى أخرى عبر رحلة طويلة من التفكر والتأمل والتدبر الواسع، فالارتحال الفكري من ساحل إلى نقيضه ليس انتقال من عمل إلى آخر، أو من منزل إلى آخر، ولكنه انتقال عقل وروح من فهم وإدراك وعلاقات، بل وطريقة حياة إلى أخرى، فهي بحث عن يقين جديد، وفردوس مختلف.

جاءت الموجة الثانية من المراجعات مع هزيمة الكبرى عام 1967، فأخذ البعض يراجع أفكاره انطلاقا من قناعات حقيقية، وبدأت عملية ارتحال إلى الفكر والرؤية الإسلامية ومن هؤلاء القاضي والمؤرخ طارق البشري، والمفكر عادل حسين، والدكتور عبد الوهاب المسيري، والدكتور مصطفى محمود.

ويمكن تسجيل عدة ملاحظات على تلك المراجعات وتأثيرها:

وجود بيئة محفزة على المراجعة: كانت نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من الفترات التي شهدت حالة جديدة من التشكيل للفكر المصري، أبرز معالمها أن السلطة كانت متسامحة إلى حد كبير مع الحرية والإسلام، وفي مجال التسامح مع الإسلام وظف السادات الإسلام في مواجهة الناصرية واليسار لإزاحتهم من الحياة الثقافية والاجتماعية ، وهو ما جعل الإعلان عن التوجه للإسلام ليس مخاطرة يخشى فيها المفكر والمثقف على حياته وحريته.

فطارق البشري، مثلا، كان أحد الوجوه الشابة التي تمثل اليسار في فترة الستينيات، وكانت دراساته ومقالاته تحظى باهتمام واضح في مجلة “الطليعة” اليسارية، لكن الرجل في العام 1980 حسم توجهه الإسلامي وقال :”لا غنى عن الإسلام ليحافظ المصري على عروبته”” واتخذ قراره بالحج وأثرى بكتاباته الفكر الإسلامي، ولعل تمتع البشري باستقلالية فكرية كفلت له المراجعة، وقد كان له رجاء قديم مع خالقه قبل رحلته الفكرية، حيث دعا ربه أن تبقى المساحة بين سن القلم والورقة التي يكتب فيها حرما آمنا لا تنفتح لغير النظر والفهم، فقال: “لَقَد رَجوتُ اللهَ سُبحَانَهُ، وأرجوه أَبَدَاً، أن أَكونَ لا عَلىَ مِلكِ أَحَدٍ مِن الناسِ، وأَن أَكونَ عَلى حُكمِ مِلكِهِ تعالى، ورَجَوتُهُ وأَرجوهُ تعالى أَن يُبقيَ على مِلكي التامِ، تِلكَ المَسافَةَ الصغيرةَ التي لا تَتَجاوزُ حَجَمَ الحَصاةِ، والتي تَقَعُ بَينَ سِنِ القَلَمِ وسَطحِ الوَرَقِ، وأَن يُبقيَهَا لي حَرَمَاً آمِنَاً، لا تَنفَتِحُ لِغَيرِ النظَرِ والفَهمِ، ولا تَنفَتِحُ لِدَخَلٍ أَو غَصبٍ أَو غِوايَةٍ”

وطارق لم يكن بعيدا عن الإسلام، فقد نشأ في بيت جده سليم البشري شيخ الأزهر، وكان على اتصال لما يقرب من عشر سنوات بالأدب الصوفي الذي استهواه وجعل سريرته تزدهر بصفاء كبير، كما أن عمله بالقضاء جعله دائما يبحث عن العدل ويتحرى الحق، ومما يحكيه أنه بعد سنتين من عمله وهو في الثالثة والعشرين من عمره إلى مسجد السادة المالكية وصلى ركعتين قريبا من قبر جده ودعا ربه بدعاء موسى عليه السلام ” رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين”، لذا كانت المراجعة رحلة طويلة امتدت لسنوات حتى حسمها بقرار عام 1980.

من التوبة إلى الرسالية: تميز المراجعات في موجتها الثانية أنها انتقلت من مجال ما يمكن أن يطلق عليه “التوبة” إلى الجانب الرسالي، حيث أنجز القائمون بالموجة الثانية من المراجعات جهودا فكرية كبيرة انعكس على حضور ومستقبل الإسلام فكرا وجماهيرية وحركات في القرن العشرين وما تلاه من عقود.

الموجة الثانية كانت أعمق تأثيرا على المستوى الفكري والجماهيري والسياسي من الموجة الأولى، حيث يمكن القول -بشيء من التعسف- أن الموجة الأولى من المراجعات كانت تشبه “التوبة” عن كتابات وقع فيها المفكر في السابق، أما الموجة الثانية فكان “الشعور الرسالي” طاغيا، أي أن من قام بالمراجعة كان يتملكه إحساس رسالي كبير بضرورة تقديم شيء للفكر الإسلامي، وقد استطاعوا أن يغيروا مسار الفكر الإسلامي في العصر الحديث، بل يمكن القول أنهم صاغوا ملامحه وقسماته، فمثلا الدكتور مصطفى محمود في مراجعاته فكك إشكالية التعارض بين العلم والإيمان في العقل المسلم المعاصر، وبث أفكاره بأن العلم من وسائل الارتقاء إلى الله، واستطاع مصطفى محمود أن يزيح الكثير من الالتباسات في العلاقة بين الدين والعلم من أذهان الجماهير عبر برنامجه التلفزيوني الشهير “العلم والإيمان” الذي بدأ عام 1971 واستمر ثمانية وعشرين عاما لأكثر من أربعمائة حلقة متواصلة، ومن المهم أن نشير أن التلفزيون في ذلك الوقت كان حكرا على الدولة فقط، ويبث برامجه لساعات محدودة، وهو ما يعني أن التغير الذي أحدثه البرنامج كان واسعا وجماهيريا.

أما المفكر عادل حسين، والذي كان أحد أعمدة اليسار في مصر لسنوات طويلة، استطاع صوغ المعالم الأولى للإسلام السياسي وطبيعة تحالفاته وولوجه إلى عالم الانتخابات، فهو من صك شعار “الإسلام هو الحل” الذي تداولنه الحركة الإسلامية لأكثر من ثلاثة عقود، وتكاد تكون أفكاره حاكمة للعمل السياسي الإسلامي حتى الآن.

أما المستشار طارق البشري، فاستطاع أن يطرح على الأجندة الأكاديمية موضوعات الفكر السياسي الإسلامي المعاصر خاصة ما يتعلق بالهوية والعلاقة مع الأقباط، والمتتبع للمؤتمرات التي عقدت في الثمانينات حول الفكر الإسلامي سيجد البشري فاعلا رئيسيا في الكثير منها سواء بشخصه أو رؤاه، ونجح الرجل في تطبيع جزء من العلاقة بين الأكاديميا والفكر الإسلامي، فلم يعد الإسلام وقضاياها وأفكاره غريبة عن الوسط البحثي في هذا المجال، ومن الناحية الأخرى استطاع تطوير أفكار الإسلاميين تجاه قضايا الهوية والأقباط والديمقراطية والمشاركة السياسية.

أما الدكتور محمد عمارة، الذي كان قوميا، فقام بجهد واسع في إجراء مصالح واسعة بين التيار الإسلامي والفكر المصري الحديث، فالرجل أخذ يصوغ الكتب للتدليل على وجود “توبات” ومراجعات للكثير من أعمدة الفكر المصري تجاه الإسلام، مثل: رفاعة الطهطاوي وعلي عبد الرازق وطه حسين وقاسم أمين، ومن كتبه في هذا المجال “طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار بالإسلام” و” قاسم أمين تحرير المرأة والتمدن الإسلامي” و” رفاعة الطهطاوي.. رائد التنوير في العصر الحديث”، هذه المصالحة التي توسع فيها الدكتور عمارة توسعا كبيرا كانت لها انعكاساتها على تحطيم الكثير من الحواجز بين الإسلاميين وبين هؤلاء الرواد، وجعلت تقييم هؤلاء الرواد يدور في فلك الاجتهاد الذي يحالفه الصواب حينا، والخطأ والشطط أحيانا.

أما الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي جاء من اليسار إلى الإسلام، فقدم جهودا للفكر الإسلامي المعاصر تجاه فهم الصهيونية كمشروع استعماري غربي معادي للإنسان، فبعد أن كانت جهود الإسلاميين تجاه المشروع الصهيوني تكاد تنحصر في الخطاب الحماسي التوعوي وجمع التبرعات، قام المسيري بفتح العقل الصهيوني وقراءاته المنظومات الفكرية التي تحكمه وتوجهه، وغاياته وعلاقته مع الظاهرة الاستعمارية، وموقفه من الإنسان، وكيفية مواجهته، وأثمرت جهود المسيري في خلق مساحة مشتركة بين الإسلاميين وغيرهم خاصة التيارات القومية للالتقاء على مساحة مشتركة لمواجهة الصهيونية، التي باتت مسؤولية الجميع، كذلك تحولت خطابات الإسلاميين الشعبوية تجاه الصهيونية وإسرائيل إلى خطابات تستدعي العلم والعقل في الفهم والمواجهة وإدراك مخاطر الصهيونية.