الشيخ المجدد السيد محمد رشيد رضا، رحمه الله رحمة واسعة، له مصطلح متميز في وصف فئات من المسلمين رأى أنهم يمثلون عبئًا على الإسلام، ويعطون صورةً غير صادقة لمنهجه ومبادئه؛ وهو مصطلح (المسلمين الجغرافيين)، في مقابل من يسميهم (المسلمين الحقيقيين).
وقد استخدم الشيخ رشيد رضا هذا المصطلح في مواضع كثيرة من مقالاته بمجلة (المنار)؛ ويعني به أولئك الذين يُعَدّون في اصطلاح الجغرافيا: مسلمين؛ وهم كل من ينتسب للإسلام ولو اسمًا. أو: الذين يُعدون من المسلمين في إحصاء الجغرافية، وإن لم يعرفوا ما هو الإسلام.. بينما (المسلمون الحقيقيون)- حسب رؤيته- هم: أولئك الذين يفهمون الإسلام حق فَهْمه ويعملون به؛ وهم- برأيه- قليلون.
وهو لا يكتفي بهذا العموم، بل قسَّم (المسلمين الجغرافيين) إلى عدة أقسام، لعل من المفيد أن نتعرف عليها، وأن نرى واقعنا في ضوء ذلك؛ لنكون أكثر قدرة على التعامل معه والنهوض به، من خلال الاسترشاد برؤية واحد من أبرز العلماء والمجددين في القرن المنصرم.
في بداية مقاله المهم (أعداء الإسلام المحاربون له في هذا العهد)- والمنشور بـ(المنار)، مجلد 29، شوال 1346هـ، ص: 115 وما بعدها- يوضح رشيد رضا أن الإسلام له “أعداء كثيرون، من أهله ومن غير أهله؛ كلهم يحاربونه ويسعون لإطفاء نوره، وتمكين أعدائه من مقاتله.. وأن منهم من يسعى لهذا عالمًا به متعمدًا له، ومنهم الجاهل غير المتعمد، والجاهل الذي يظن أن ينصره ويدافع عنه”!
ويشير إلى أن هؤلاء يمكن حصرهم في تسعة جيوش: ثلاثة من الأجانب، وخمسة من (المسلمين الجغرافيين أو الرسميين)؛ أي الذين يُعدون في الإحصاء العام لأهل كل قطر من المسلمين، حسب قوله.
ثم يعدِّد هؤلاء التسعة فيقول: “أما الأجانب منهم فهم: (1) المُستعمِرون، و(2) المبشِّرون (دعاة النصرانية)، و(3) المعلِّمون منهم لأولادنا في مدارسهم ومدارسنا. وأما المسلمون الجغرافيون فقسمان: منهم قدماء طال عليه العهد؛ وهم (4) مُقلدة الكتب الجامدون و(5) مشايخ الطرق المبتدعون؛ وقسمان منهم حَدَثوا بعد ذلك وهم: (6) المتفرنجون و(7) الملحدون؛ والقسم الثامن (8) دعاة التجديد والثقافة الناسخة لما قبلها، وهو آخر جيش تألَّف لمحاربة الأديان كافة والإسلام خاصة؛ والقسم التاسع (9) المتفرنجات من النساء، وهو الآن في طور التكوين. على أن هذه الأقسام يتداخل بعضها في بعض”.
دور (المنار)
ثم يتطرق رشيد رضا إلى دور (المنار) في التصدي لهؤلاء وأولئك، بأساليب شتى تناسب كل فريق من هذه الفرق، على ما بينها من اختلاف؛ فيقول: “من المفروض على (المنار) أن يكافح جميع أعداء الإسلام المهاجمين له في عقائده وتشريعه وآدابه وملكه ولغته. وهو منذ أنشئ قائم بأعباء هذه الفريضة على قلة النصير والظهير، وقد بدأنا في السنين الأولى بجهاد أعداء دينهم وأنفسهم من المسلمين، فدعوناهم إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلناهم بالتي هي أحسن؛ ثم خضنا مَعَامِع مهاجمي الأجانب ولاسيما دعاة النصرانية (المبشرين)، فكان من أبواب (المنار) المفتوحة في كل جزء باب (شبهات النصارى وحجج الإسلام)، كما كان من أبوابه فيها باب (البدع والخرافات والتقاليد والعادات)، وفي أثناء ذلك كنا نلم المرة بعد المرة بمضار التفرنج الصورية والمعنوية والاجتماعية، ثم ظهرت مفاسد الملاحدة من المتفرنجين؛ بمجاهرتهم بمهاجمة الدين في المحاورات والخطب تلقى في المحافل، والمقالات تنشر في الجرائد، فَنَهَدَ إليهم (المنار) متتبِّعًا عوارهم، مقلِّمًا أظفارهم، مبينًا مفاسدهم ومضارهم”.
لكنه يستدرك موضحًا أن الجهود المطلوبة تفوق ما لدى (المنار) من طاقة؛ فيقول: “وماذا عسى أن يبلي قلم واحد في صحيفة واحدة؛ يناضل هؤلاء المهاجمين الكثيرين؟ جهد المقل، وأداء فرض كفاية أو فروض كفايات، تأثم الأمة الإسلامية كلها بتركها. وما كان عمل (المنار) بدافعٍ هذا الإثم عن جميع شعوبها في جميع أقطار الأرض التي ظهرت فيها تلك الإغواءات النصرانية والإلحادية والبدعية؛ وإنما كان يغني عنهم ويدفع لو كان- أي (المنار)- منتشرًا كانتشارها، يصل إلى كل من تصل إليه منهم بنفسه أو بترجمة ما ينشره. على أن هذه المفاسد تظهر في كل بلد أو قطرٍ بشكلٍ قد يحتاج في رده وبيان بطلانه إلى عبارات وحجج غير التي يحصل بها المراد في قطر آخر”.
أي أن لكل بلد ما يناسبه من الوسائل والبراهين، تبعًا لما يُلقَى فيه من الشبهات والوسائل المضللة.
دعاة التغريب والملاحدة
ثم يبين رشيد رضا أن “مكافحي الإسلام من المتفرنجين- أي دعاة التغريب- والزنادقة الملحدين، قد ابتدعوا دعاية شرًا من دعاية المبشِّرين، وهي دعوة جمهور الأمة إلى التعطيل والإلحاد، وعلى ما يترتب عليهما من الزندقة وإباحة الأعراض والأموال، وانتهاك حرمات الفضائل والآداب، وحل جميع الروابط التي تتكون بها الأمة من مقومات ومشخصات؛ لا يراعى في شيء من اقتراف هذه المفاسد والمخازي إلا اتقاء عقاب الحكومة على مخالفة قوانينها”!
ويوضح أن هدف المتغرِّبين والملاحدة هدم الإسلام، وإضعاف هوية الأمة، فيقول: “هم يحاولون هدم الدين الإسلامي من جميع جهاته: الاعتقاد والتشريع والآداب والفضائل، وكذا هدم سائر مقومات الأمة الإسلامية ولاسيما العربية من: اللغة والزي؛ حتى لا يكون للأمة شيء من ماضيها تحافظ عليه بل حتى لا تكون أمة؛ فإن الأمم بماضيها وتاريخها ومقوماتها الصورية والمعنوية”.
وأما ما يستند عليه هؤلاء في دعاواهم الباطلة، فهو: “أن كل ما كانت به الأمة أمة في الماضي، قد صار قديمًا باليًا ضارًّا، يجب أن يُستبدل به غيره من الجديد الذي يقتبس من النظريات والآداب والتقاليد والأزياء الأوربية؛ فهم يدعون إلى كل جديد، وينفرون من كل قديم”!
وما أشبه ذلك بحال نُظرائهم في حاضرنا الذين يزعمون أن التراث الإسلامي جزء من الماضي ولم يعد يصلح للحاضر بمستجداته ومشكلاته! وأن لا بديل عن الأخذ بالحضارة الغربية بحلوها ومرها!
ويحذّر الشيخ رشيد رضا من أن هؤلاء يعتمدون في نشر أفكارهم على استغلال الشباب بما لديهم من طاقة فوّارة ومن عدم نضجٍ كاف، وعلى العوام الذين قد لا يكون عندهم رادع يحول بينهم وبين اقتراف الحرمات، فيقول: “إنهم يتكلون في رواج دعايتهم على النابتة الجديدة من الشبان والشابات الذين يتعلقون عادةً بكل جديد؛ لطرافته ولذته، ولعدم رسوخ عقائدهم وآدابهم واستكمال عقولهم؛ ثم على العوام الذين يتلذذون بكسر قيود الصيانة وإباحة الشهوات”!
مقلدة الفقهاء ومبتدعة المتصوفة
بجانب ذلك، يبين صاحب (المنار) أن مقلدة الفقهاء ومبتدعة المتصوفة قد انحرفوا عن أصل مهمتهم ووظيفتهم، وأنهم بذلك يتسبَّبون في أن تفعل مخططات غير المسلمين فعلها، فيقول: “إنه لولا جمود مقلِّدة الفقهاء- الذين احتكروا التعليم الديني في بلاد الإسلام منذ قرون- ولولا بدع أهل الطرق الصوفية وخرافاتهم- وهم الذين كان سلفهم يعنون بالتربية الدينية؛ ليكون الدين وجدانًا عند صاحبه لا يقبل البحث والجدل، فانقلب بعدهم إلى إفساد لا يقبل الإصلاح بحيلة من الحيل- لولا هؤلاء وأولئك، لما كان لهؤلاء المفسدين ولا للمبشرين أدنى تأثير في إغواء المسلمين.
ويضيف: “لئن كانت مقلدة المذاهب المعروفة هي بقية الآخذين بظواهر الإسلام، فما هذا بمبرئ لهم من تهمة الجناية عليه والتنفير عنه في هذا العصر؛ باحتكارهم لأنفسهم الحكم في كل شيء باسم الدين، وإيجابهم على الناس اتباعهم فيه، لتعودهم هذه الرياسة منذ قرون؛ وهي رياسة ما أنزل الله بها من سلطان، وكان ضررها في الزمن الماضي قليلاً فأصبح عظيمًا”!
الجامدون والعلوم الحديثة
ثم يضرب رشيد رضا مثالاً لما يتسبب فيه مقلدة الفقهاء من فتنة، وهو أنهم يقاومون- باسم الدين- تعلم العلوم والفنون والصناعات العصرية، مما لا يمكن لحكومة أن تحفظ استقلالها بدونها، ولا يمكن لأمة أن ترتقي في زراعتها وتجارتها بدونها. مبينًا أن من هذه الصناعات والفنون ما هو قطعي لا يمكن الشك في ثبوته، ولكن هؤلاء الفقهاء الجامدين يتحكمون في الحكم على من يعتقد هذه القطعيات بالكفر، وهم الذين كانوا يعارضون الدولة العثمانية وغيرها بالانتفاع بهذه العلوم والفنون؛ بدعواهم أنها معارضة للدين مخالفة للقرآن؛ حتى إنهم كانوا يحرمون علم الجغرافيا، مع أنه ليس في موضوعه ولا مسائله ما له علاقة بالمباحث الدينية إلا أن يكون إثبات كروية الأرض ودورانها.. مع أن مسألة شكل الأرض ليست من عقائد الدين ولا من أحكامه ولا من آدابه، ولم يوجب الله تعالى على عباده أن يعتقدوا أنها كالرغيف أو لوح الخشب ولا أنها كرة، ولا يسأل أحد يوم القيامة عن إيمانه بشكل الأرض؛ فإذًا لا يضره في دينه أن يجهل شكلها، ولا يضره أن يعرفه بطريق من طرق المعرفة ولكن ينفع في الدنيا.
ويشير صاحب (المنار) إلى أن (الإسرائيليات) لها تأثير في تكوين هذه الأفهام المنحرفة الجامدة، فيقول: “إن أمثال هؤلاء المتفقهة المحتكرين لعلم الدين والمنتصبين للدفاع عنه بغير علم، يَزيدون فيها ما ليس منه تقليدًا لبعض المؤلفين الميتين الذين دَسُّوا في كتب التفسير والحديث؛ وشرُّ زياداتهم خرافات زنادقة اليهود والفُرس في الخَلق والتكوين وصفة السماوات والأرض والكواكب والرعد والبرق وجبل قاف وقرن الثور والحوت وما أشبه ذلك، ثم قاموا يكفرون من يخالفهم في ذلك، فجعلوا هذه الخرافات الإسرائيلية من أركان الإيمان الذي يخرج منكره من الملة، على أن الذين ابتلوا بذكرها في كتبهم من المتقدمين- لغرامهم بكل ما روي- لم يرفعوها إلى هذا الأفق من أصول الدين ولا من فروعه، فكيف يقل إسلام هؤلاء من أعطاهم الله تعالى علمًا يقينيًا بأن تلك خرافات باطلة؟.
ويلفت رشيد رضا إلى نقطة خطيرة، وهي أن المقلدين الجامدين على الدين، يشتركون هؤلاء مع الملاحدة في هدم الإسلام، من حيث لا يشعرون! “فهم يفتنون جميع المتعلمين على الطريقة العصرية الاستقلالية عن الإسلام من جانب، ويقطعون الطريق على حكماء الدين الراسخين؛ أن ينشروا حقيقته التي لا يمكن المراء فيها من جانب ثانٍ، وأن يدحضوا شبهات الماديين والمبشرين عليه من الطريق العلمية التي لا يمكن إقناعهم أو إلزامهم الحجة بدونها من جانب ثالث”!
نحو العلاج
ثم يتساءل الشيخ: ماذا يفعل (المنار) ومن على منهج (المنار)، والحال ما ذكرنا؟
ويجيب موضحًا أهمية نشر الوعي في الأمة، حتى يتكون (رأي عام) يستطيع التصدي لهذه الانحرافات، فيقول: “إنني أرى كثيرًا من أفضل رجالنا علمًا ودينًا وعقلاً يائسين من الإصلاح هنا.. لكني أقول بإمكان تلافي الشر إذا نهض القادرون عليه نهضة سريعة بنظام محكم؛ وذلك أن القوة التي تغلب كل قوة في هذا العصر هي قوة الرأي العام للأمة؛ والرأي العام في مصر لا يزال متدينًا، سواء في ذلك مسلموه وغيرهم من النصارى واليهود” (وقت أن كان اليهود يمثلون جزءًا من المجتمع).
ولا شك أن ما طرحه الشيخ محمد رشيد رضا مازال متصلاً بواقعنا اتصالاً وثيقًا، وأننا مازلنا نعاني من (المسلمين الجغرافيين) بأنواعهم الستة: 1-مقلدة الفقهاء. 2-مبتدعة الصوفية. 3-دعاة التغريب. 4-الملحدون. 5-أصحاب القراءات العصرية والحداثية. 6-دعاة تحرير المرأة!
وأننا نحتاج في مواجهة ذلك إلى علاجات كثيرة، يمكن إجمالها بالنظر- إلى الأنواع الستة السابقة- في:
– العودة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية.. والتمييز في فَهْمهما بين ما هو أصل ثابت ومحكم نافذ، وما هو فرعي متغير ومتشابه يجوز الاختلاف فيه.
– تحرير الإسلام من الأفهام المغلوطة، سواء في الفقه والتفسير وغيرهما، أو في الجانب الروحي أو العاطفي كما كان يسميه الشيخ الغزالي.
– تنقية التراث لا الجمود عليه.. والاعتزاز به لا القفز عليه.
– إعمال المقاصد والكليات، مع عدم تجاوز الثوابت والأحكام القطعية.
– وضع ميزان دقيق في كيفية الاستفادة مما لدى الآخرين، دون انغلاق أو ذوبان.
– إعطاء المرأة ما تستحقه من دور ومكانة في المجتمع، مع الحفاظ على هويتها الإسلامية.