إن قضية الكوارث سواء أكانت طبيعية من صنع الله كالزلازل والبراكين أم كانت من صنع الإنسان كالحروب ، والإفساد في الأرض، وهي جميعها ضمن إرادة الله (عز وجل) ولا تخرج عن حُكمه وإرادته سبحانه وتعالى .
هذه الكوارث قد تكون من قبل الابتلاء والتمحيص للمسلمين كما قال تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا } [ الإسراء: 59]
والمسلمون مطالبون بالصبر على ذلك، والتمعُّن في حكمة الله (عز وجل) وقدرته على كل شيء، وهذا عين التسليم والانقياد لله (عز وجل).
وقد تكون هذه الكوارث عقوبة للأمم والمجتمعات الكافرة للإعراض والغيّ والإفساد في الأرض ، كما قال تعالى : { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّىٰ حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ } [ الذاريات: 44].
قال رسول الله ﷺ “أُمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل”. “(1)
وقد ادَّعى اليهود والنصارى عدم عذاب الله لهم في الآخرة، فكانت الإجابة حاسمة في شأنهم ، قال تعالى : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ المائدة :18]
قال صاحب التحرير والتنوير :” وقد علَّم اللهُ رسولَه أن يبطل قولهم بنقضين: أولهما من الشريعة، وهو قوله: قل فلم يعذبكم بذنوبكم يعني: أنهم قائلون بأن نصيبا من العذاب ينالهم بذنوبهم، فلو كانوا أبناء الله وأحباءه لما عذبهم بذنوبهم، وشأن المحب أن لا يعذب حبيبه، وشأن الأب أن لا يعذب أبناءه. روي أن الشبلي سأل أبا بكر بن مجاهد: أين تجد في القرآن أن المحب لا يعذب حبيبه؟ فلم يهتد ابن مجاهد، فقال له الشبلي في قوله: قل فلم يعذبكم بذنوبكم، وليس المقصود من هذا أن يرد عليهم بوقوع العذاب عليهم في نفس الأمر، من تقدير العذاب لهم في الآخرة على كفرهم؛ لأنَّ ذلك لا يعترفون به، فلا يصلح للرد به، إذ يصير الرد مصادرة، بل المقصود هو الرد عليهم بحصول عذاب يعتقدون حصوله في عقائد دينهم، سواء أكان عذاب الآخرة، أم كان عذاب الدنيا.
فأما اليهود فكتبهم طافحة بذكر العذاب في الدنيا والآخرة، كما في قوله تعالى: { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة} [البقرة: 80]، وأما النصارى فلم أر في الأناجيل ذِكرا لعذاب الآخرة، إلا أنهم قائلون في عقائدهم بأن بني آدم كلهم استحقوا العذاب الأخروي بخطيئة أبيهم آدم، فجاء عيسى ابن مريم مخلِّصًا، وشافعًا، وعرض نفسه للصَلب ليكفّر عن البشر خطيئتهم الموروثة، وهذا يلزمهم الاعتراف بأن العذاب كان مكتوبا على الجميع لولا كفارة عيسى، فحصل الرد عليهم باعتقادهم به،”(2)
وهكذا فإن الرحمة لا تقع إلا لهذه الأمة وفق الحديث السابق، ويكون الأجر والثواب وفق قوله : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [ التغابن :11]
قال صاحب مرقاة المصابيح: قال رسول الله – صلى الله تعالى عليه وسلم: ” أمتي هذه ” أي: أمة الإجابة الموجودة ذهنا، المعهودة معنى، كأنها المذكورة حسا (أمة مرحومة) أي: رحمة زائدة على سائر الأمم؛ لكون نبيهم رحمة للعالمين، بل مسمى بنبي الرحمة، وهم خير أمة (ليس عليها عذاب) أي: شديد (في الآخرة) بل غالب عذابهم أنهم مجزيون بأعمالهم في الدنيا بالمحن، والأمراض، وأنواع البلايا، كما حقق في قوله تعالى: {من يعمل سوءا يُجْزَ به} [النساء: 123]. على ما تقدم، والله تعالى أعلم، ويؤيد قوله: (عذابها في الدنيا الفتن، والزلازل، والقتل) أي: بغير حق، وقيل: الحديث خاص بجماعة لم تأت كبيرة، ويمكن أن تكون الإشارة إلى جماعة خاصة من الأمة، وهم المشاهدون من الصحابة، أو المشيئة مقدرة؛ لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
وقال المظهر: هذا حديث مُشْكَل؛ لأن مفهومه أن لا يعذب أحد من أمته – صلى الله تعالى عليه وسلم – سواء فيه من ارتكب الكبائر وغيره، فقد وردت الأحاديث بتعذيب مرتكب الكبيرة، اللهم إلا أن يؤول المراد بالأمة هنا من اقتدى به – صلى الله تعالى عليه وسلم – كما ينبغي، ويمتثل بما أمر الله، وينتهي عما نهاه”(3)
المصائب اختبار و ابتلاء
إن الكوراث والمصائب التي تصيب البشر هي في الأساس اختبار وابتلاء من الله ، وشأنها التسليم والإذعان لأوامر الله (عزوجل)، كما قال النبي ( ﷺ):” عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ فَصَبَرَ، كَانَ خَيْرًا»(4)
فهذا هو الموقف الشرعي من القضايا التي تنزل به كالزلازل والبراكين وغيرها من الأمراض، كالطاعون الذي وقع في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، ومع ذلك فنحن كأمة مأمورون بالتعامل مع ذلك؛ فالأمم لا بد أن تتخذ من التدابير والاحترازات التي تستلزم حفظ الأنفس والأرواح، وهذا مقصد من مقاصد الشرع الكريم .
والأمثلة على ذلك كثيرة، فالأمم العاملة لا تقف من الأحداث موقف المتواكل بحجة التسليم ، وأنه لا دخل لها في ذلك، فهذا مخالف للشرع، فإذا كانت هذه الأمور من صنع الله (عز وجل) لتأكيد هَيمنته على الكون، فإنه سبحانه لم يمنعنا من التداوي أو مواجهة الأعاصير أو الزلازل والبراكين، على الأقل للحد من المخاطر، وتقليل الخسائر. { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [ الأنبياء: 35]
الأمم التي لا تعمل أو تنهض وفق حضارتها وتعد العدة لمواجهة كافة المستجدات، هي أمة محكوم عليها بالتخلف عن ركب الحضارة، والسقوط في متاهات الحياة، والتعثر عن مواجهة أي كارثة تحل بها، فلا يمكن لأمة ليس لديها أدنى رؤية عن المستقبل ، والمستجدات العلمية والبحثية في كافة المجالات، وفق المستقبليات والاستشراف، أن تصمد أمام التحديات التي تزداد يومًا بعد.
دورها سيكون دائمًا محصورًا في انتظارها من يخلصها من ذلك، دورها في نطاق المفعول به لا الفاعل، دورها في نطاق المستهلك لا المنتح.
هذا الكلام لا يتوقف على قضية من القضايا، إنما يمتد إلى الحقول المعرفية والإبداعية كافة. والشريعة واضحة في هذا الصدد ونصوصها في ذلك كثيرة ومتعددة، كما قال تعالى : {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ التوبة : 156]، وغير ذلك من النصوص التي تحث الأمة على النهوض العلمي والمعرفي .
بالأمس القريب وقعت جائحة كورونا، وكان العالم يتعامل معها وَفق رؤية علمية ، ونحن كنا ننتظر من يمُنُّ علينا بالأمصال مقابل أي شيء، وليس لدينا أدنى معلومات للتعامل إلا ما يلقيه علينا الآخرون .
إنَّ آليات التعامل مع الزلازل والبراكين ، وغيرها من الكوارث لا يكون عند وقوعها، بل يسبق ذلك بالاستعداد والتوقع لها وفق متخصصين في كافة المجالات ، سواء ما يتعلق بالكوارث الطبيعية أم ما الإنسانية كالمجاعات والأمراض وغير ها.
أما إذا كانت الكوارث من صنع البشر، وهذا أمر مطرد على مدار التاريخ، والوقائع موجودة في مصادرها وفق ما يتوائم مع كل عصر، وما بلغه من طفرات عِلمية.
فالإنسان لا يتوقف على المكر بالإنسان الأخر، والشواهد على ذلك موجودة في القرآن الكريم ، قال تعالى : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الأنفال: 30]
وقال تعالى: { وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم :46].
إن القضية الآن ليست إثبات فساد الإنسان في الكون من عدمه، وقد حسمت منذ نزول الوحي بقوله تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الروم :41].
القضية الآن هي: مادور الأمة في التصدى لهؤلاء؟ أو بمعنى أدق: ما دور الأمة الحضاري بالنسبة للأمم الأخرى؟
أمتنا تحتاج إلى نهضة جديدة في كافة المجالات المعرفية حتى تستطيع مواكبة الحضارة والعالم من حولها. دور الأمة الآن هو كيف تنهض في ظل العوامل والتحديات من حولها؟ كذلك فإنها تحتاج إلى الإجابة على تساؤل النهوض في ظل التحديات والمعوقات الموجودة؟