سبق أن أوضحت أن الاستدلال الفقهي المعاصر يدور بين طريقتين: الأولى: القياس على مسائل جزئية في المذاهب الفقهية من دون التقيد بمذهب معين عبر التلفيق بين المذاهب المختلفة، والثانية: اللجوء إلى القواعد العامة في الشريعة. وقد قصرتُ مقال الأسبوع الماضي على نقد تطبيقات بعض المعاصرين للتخريج على الأشباه والنظائر المنصوصة في كتب الفقه (كقياس جواز الاقتداء عبر البث الحي بالاقتداء بالإمام مع وجود فاصل أو حائط بينه وبين المأموم). وقد أثار هذا بعض التساؤلات حول الطريقة الثانية وهي الاستدلال بالقواعد العامة مباشرة من دون الحاجة إلى البحث عن الفروع والنظائر الفقهية، وسأخصص هذا المقال لبيان القول فيها، والهدف في هذا المقال وما سبقه من مقالات هو النقد المنهجي للممارسة الفقهية المعاصرة، وتحويل النقاش من الأشخاص والقائلين إلى القول نفسه وحججه ومبناه وأساسه النظري.
قد يبدو الاجتهاد الفقهي للمثقف العام لغزًا أو أمرًا اعتباطيًّا، خصوصًا مع تحول الفتوى إلى ظاهرة عامة بعد أن كانت شأنًا خاصًّا شديد القيود في التقليد المذهبي قبل الأزمنة الحديثة، ولكن الاجتهاد الفقهي إنما يتمحور حول البحث عن مراد الله تعالى من المكلف وكيف يتصرف في كل واقعة، وتحديد الفعل الأصلح؛ لأن رضاه – سبحانه – سببُ كل خير ونجاة. ولذلك تتنزل مراتب النظر الفقهي والأحكام على درجات. أعلاها: بيان الحكم بالنص (القرآن والسنة أو بالقياس عليهما)، والنص هو المعبِّر عن إرادة الله التشريعية، فإن انعدم النص أو خفيَ يلجأ المجتهدون إلى الاستدلال (وهو البحث عن الدليل من غير النص والقياس والإجماع)، ومن هنا توسعت مصادر التشريع وانقسمت إلى مصادر نصية وأخرى غير نصية (كالاستحسان والمصالح المرسلة والعرف، وسد الذرائع …).
أما بالنسبة للمتمذهبين من الفقهاء والمفتين فقد كان اجتهادهم يمر بمرحلتين، تتمثل الأولى في البحث في المصادر الفقهية عن نظائر للمسألة الحادثة التي يُراد معرفة حكمها، فإن وُجد نظيرٌ لها: يُنظر فيه وفي الأوصاف المتشابهة، فإذا انتفت الفروق أخذت الواقعة الحادثة حكمَ ذلك النظير ويسمى “التخريج أو الإلحاق”، وقد يسمى “الأشباه والنظائر”، وإن كان هذا المصطلح الأخير يُطلق على عدة فنون جمعها جلال الدين السيوطي (911هـ) وتابعه زين الدين ابن نجيم (970هـ)، وقد أوضح السيوطي المعنى بقوله: “به يُطَّلع على حقائق الفقه ومداركه ومآخذه وأسراره، ويُتمهر في فهمه واستحضاره، ويُقتدر على الإلحاق والتخريج ومعرفة أحكام المسائل التي ليست بمسطورة، والحوادث والوقائع التي لا تنقضي على ممرّ الزمان”.
وقد يوجد نظيرٌ قديم للمسألة الحادثة ولكنه محل خلافٍ بينهم، ففي هذه الحالة يتم النظر في إمكان التدين بهذا النظير الذي يُراد الإلحاق به بناء على عدة معايير هي: ألا يكون هذا النظير محكومًا بشذوذه، وألا يكون قد حُكي الإجماع على خلافه، وأن يندرج في راجحات أحد المذاهب، وقد يكون مندرجًا في مرجوحاتها ولكنه تقوّى مدركه بجريان العمل أو بتأييد عدد من المحققين له، أو بكثرة المجتهدين، وقد يتقوى بالحاجة العامة إليه. فإذا لم يجد الفقيه نظيرًا للمسألة الحادثة – وهذه هي المرحلة الثانية – يلجأ إلى القواعد التي حددها المذهب المعين، ويقع هذا أحيانًا حتى من اللجنة الدائمة للفتوى في السعودية فضلاً عن غيرها. أما الأخذ المباشر من نصوص الكتاب والسنة فصنيع المجتهدين ولم يدّع ذلك أحد من المفتين المعاصرين.
فمسلك (التخريج والإلحاق) عَسِرٌ عند فقهاء المذاهب، وقد تختلف فيه الأنظار بحسب الفقاهة والتمكن من فروع المذهب، وقد ينسى الفقيه الفرع أو النظير، وقد يذكره ولكنه يذهل عن وجه الحكم والشَّبَه. وقد يكون الفرع في مذهبٍ غير مذهبه فلا يستحضره. ولكن تَحَقُّق مطلق الشبه بين الواقعة الحادثة والنظير الفقهي قد يقوى لإثبات حكم الجواز عند بعضهم ولا يقوى عند آخرين؛ بل لا بد من وجود مناسبة للحكم وليس مجرد وصف طردي لا يؤثر في الحكم، بالإضافة إلى إعمال قواعد أخرى. فالمناسبة تجعل الحكم معقولاً، والوصف الطردي كالطول والقصر أو كون الذي أفطر في نهار رمضان أعرابيًّا، فهذه أوصاف لا ينبني عليها أحكام. ويبقى التخريج الفقهي أكثر ضبطًا واتساقًا مع الموروث الفقهي ومنظومته؛ إذ من خلاله أمكن للمذاهب الفقهية أن تنمو وتتسع، كما أمكن أن تُنسب جميع هذه الاجتهادات إلى المذهب مما شكّل ما سمي السلطة المذهبية أو سلطة التقليد.
أما مسلك القواعد الكلية ففيه ضعفٌ وتكلُّف؛ لأن فيه إجمالاً يفتقر إلى بيان، والفقيه يسعى – باستمرار – إلى الوضوح والضبط في إدراك مراد الشارع ومقصده، ولكن عند غياب النظير يبدأ المفتي بإعمال القواعد الفقهية الصغرى (التي تضم مسائل أبواب محددة في الفقه)، وقد أوصلها بعضهم إلى خمسين وأوصلها آخرون إلى مئتين، ثم يلجأ المفتي إلى القواعد الفقهية الخمسة الكبرى (التي تضم كليات الفقه).
والقواعد الخمس الكبرى التي وقع الاتفاق عليها وتنتظم كثيرًا من الفروع الفقهية، هي: الأمور بمقاصدها، واليقين لا يزول بالشك، والمشقة تجلب التيسير، والضرر يُزال، والعادة محكَّمة. وقد جرى النقاش حول ما إذا كان يمكن رَدّ جميع فروع الفقه إليها بيسر أو بتكلف، فإن أُريد الرجوع إليها – بوضوح – فإنها تربو على الخمسين بل على المئين، ولكن الإمام عز الدين بن عبد السلام (660هـ) أرجع الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد، بل قال السيوطي: “بل قد يرجع الكل إلى اعتبار المصالح.
ورغم أهمية هذه القواعد واعتبارها حجة عند الفقهاء، إلا أن الاستدلال بها أو استخراج الأحكام تأتي متأخرة بعد انعدام دليل الإجماع والقياس الذي صُرِّح فيه بالعلة الموجِبة للحكم (قياس العلة)، فاللجوء إلى القواعد مباشرة من دون وسائط أو تفصيلات ليس حاسمًا في معرفة المراد ولا مانعًا من وقوع الاختلاف فيه، ولذلك وقع الاستدلال بها من كل الأطراف في الزمن الحاضر، بل إن بعض المعاصرين ربما أسرف في استعمالها لأجل التحريم والمنع، كما أسرف آخرون في استعمالها لأجل التيسير والتسهيل!.
فالقواعد – بطبيعتها – عامة وتنتظم الكثير من الفروع، ولكن تنزيلها على الفروع أو الاستدلال بها على الفرع المعين يحتاج إلى نظر خاص وبناء حجج وتعليلات توضح كيفية الحمل على هذه القواعد وما يندرج تحتها بيسر، وما لا يندرج تحتها إلا بتكلّف. بل إن الاختلاف يتسع كلما استدل المفتي بالدليل الأعلى (كالقواعد الكبرى) وترك الدليل الأدنى (كالبناء على نص معيَّن أو التخريج على النظير).
فلو اكتفى المفتي بالنظر مباشرة في القواعد العامة ربما ضيّع الفروق الفقهية، أو أخلّ بالضوابط المحددة التي تعين على ضبط ما يندرج تحتها مما لا يندرج، مما قد يؤدي إلى أن يخطئ الطريق إلى معرفة مراد الله تعالى. ومن هنا سبق أن قلت: إن النظر الجزئي مهم في ضبط مسار التعليلات الجزئية في ضوء النظر الكلي حتى تستقيم عمليات التقويم المستمرة؛ بحيث لا نقع في تناقضات بأن نحكم بأحكام مختلفة على جزئيات متشابهة ترتد إلى أصل واحد. ولضبط هذه العملية الاجتهادية اعتنى الفقهاء بتخرج الأصول على الفروع والفروع على الأصول، أي الانتقال من الجزئي إلى الكلي وبالعكس لضبط ما نسميه النظام الفقهي، وللبعد عن التشهي والحكم بالرغبات تشددًا أو تساهلاً.
فمثلاً لا يكفي في معالجة واقعة محددة الاستدلال بقاعدة “المشقة تجلب التيسير” بل لا بد من طرح أسئلة متعددة هنا لتنزيل القاعدة بدقة على الفعل المعين، وتبدأ هذه الأسئلة بتحديد مفهوم المشقة وما يُعتبر مشقة وما لا يُعتبر كذلك، وكالبحث عما إذا كان هناك نهيٌ يتناول الواقعة التي بين يدينا، أو عن وجود معارض آخر من أصل أو قاعدة أخرى، وكتحديد نوع المسألة المبحوثة: هل هي من قبيل المعاملات أو العبادات؟ فالعبادات الأصل فيها الحظر، وتخريج الفرع فيها على الأصل الأعلى يكتنفه الخطأ. أما المعاملات فالأصل فيها الإباحة، وتخريج الفرع فيها على الأصل الأعلى قد يكون أنفع؛ لأنها مبنية على التسمّح والسعة. ثم هل يترتب على التيسير في هذه المشقة ضرر أو إضرار بالغير؟ وهل هذه المسألة من الأحكام الاعتيادية أم الاستثنائية؟
ولو قلنا: إن الأمور بمقاصدها، فلا بد من تحديد المقصد، وبيان أنه مقصود للشارع، ولا بد من النظر في وسائله هل هي متعينة لأداء هذا المقصد أو لا؟ وهل هي تعبدية أو عادية؟ وهل هي منصوصة أو غير منصوصة؟، وهل هي ثابتة أو متغيرة؟، وما نوع هذا المقصد: هل هو في العبادات أم في المعاملات؟ وهل ينبني عليه حقوق للآدميين أو لا؟ وهل يترتب عليه ضرر أو إضرار؟ وما درجة هذا المقصد/المصلحة هل هي ضرورية أو حاجية أو تحسينية؟.
توضح هذه الأسئلة مدى الغموض الذي يكتنف القاعدة؛ لأنها كلية وهذه طبيعتها، ولكن تنزيل الكلي على الجزئي بحاجة إلى مثل هذا الوضوح الذي لا يتحقق إلا بالإجابة على الأسئلة السابقة، ومن ثم نستطيع إعمال الفروق وتجنب النواهي وتحقيق المراد الإلهي بحسب اجتهادنا. ولأجل هذا فإن مجرد سرد جملة من القواعد الفقهية في فتوى ما، هو فعلٌ يستوي فيه العالم والعامي، ولكن الذي يفرّق بينهما هو الإجابة على الأسئلة السابقة لتنزيل القاعدة على الفعل المعين، ولبناء الحجج والتعليلات بطريقة متسقة ومتماسكة.
وما هذا كله إلا لأننا نبحث في منهج تحديد مراد الله، وخاصة عند غياب النص من كلامه سبحانه أو كلام رسوله ﷺ. ونتدرج في ذلك من النص إلى الاستنباط، أو من الدليل إلى الاستدلال، والاستنباط له درجات متفاوتة بحسب طريقه: فمنه ما هو قريب أو أدنى، ومنه ما هو بعيد أو أعلى، والنص المعين ليس متوفرًا دومًا، ولكن هذا المنهج إنما صيغ لأجل تجنب الحكم بالهوى أو بمجرد العقل في تحديد مراد الله تعالى من المكلفين.