حذر المفكر محمد شاويش من تداعيات الواقع العربي، الذي رآه الأسوأ منذ نكبة 1948، بعد أن شُطبت بلاد عربية كبرى من الخارطة السياسية، بينما دخلت أخرى في حروب استنزاف داخلية.
ودعا شاويش، في حوار مع “إسلام أون لاين“، إلى امتلاك ما أسماه “الوعي المناسب”، والذي يتميز- حسب رؤيته- بأنه يقوم على المعرفة الكافية بالواقع القائم وبالجوانب التي يلزم تغييرها فيه، إضافة إلى أنه وعي عملي، يقترن بالسلوك المتوجه إلى تغيير هذه الجوانب.
محمد شاويش، مفكر فلسطيني الجذور، سوري المولد والنشأة (1961م)، مقيم في ألمانيا، له عدة كتب ومقالات تهتم بالوعي والنهضة وما يرتبط بهما من إشكالات فكرية واجتماعية، ومن تجارب نهضوية..
فإلى تفاصيل الحوار:
– لكم اهتمام بقضية “الوعي”.. وطالبتم بـ “الوعي المناسب لمجتمع في خطر”، كما هو عنوان كتابكم.. ماذا تقصدون من مفهوم “الوعي”؟
موضوع “الوعي” هو بالفعل، منذ بضعة عشر عامًا، الموضوع الذي أراه الأهم، وإليه ينصرف التركيز في كتاباتي، وأنصح من يريد المزيد من الإيضاح لوجهة نظري أن يعود إلى كتبي: “من فتى؟ الوعي المناسب لمجتمع في خطر”، و”نقد الوعي العربي”، و”الثقافة العربية المعاصرة من الوصف إلى التغيير”.
“الوعي” كما أفهمه ليس مجرد توفر معلومات كافية عن الواقع (على أهمية المعلومات)، ولا هو مجرد حكم أخلاقي نطلقه على الواقع (فنرى مثلاً أن من يصف الواقع القائم بأنه فاسد هو “إنسان واع”) رغم أهمية الحكم الأخلاقي أيضًا، ما أتكلم عنه في كتاباتي المذكورة هو وعي يتميز بميزتين؛ الأولى: أنه معرفة كافية بالواقع القائم وبالجوانب (المركّبات الاجتماعية) التي يلزم تغييرها فيه، والثانية: أنه من النوع العملي الذي يقترن بالسلوك المتوجه إلى تغيير هذه الجوانب المذكورة.
هذا الوعي المقترن بالسلوك المتوجه إلى هدف معين تفرضه التحديات الوجودية التي تواجهها الجماعتان العربية والإسلامية، هو الذي أسميه “الوعي المناسب” اختصارًا؛ فهو لا يدعي لنفسه الإطلاقية والتجرد عن الزمان والمكان.
– كيف ترصد عملية “تزييف الوعي”، والتي نجحت بدرجة كبيرة في إفساد وعي الإنسان العربي بأبجديات فكرية وإنسانية وسياسية واجتماعية؟ وكيف يمكن مقاومة ذلك؟
هذا موضوع كبير يطول الحديث فيه. ومن منطلق ما أسميه “الوعي المناسب” أعرّف “تزييف الوعي” بأنه توجيه الوعي العربي في اتجاهات تجعل العربي في أحسن الحالات سلبيًّا مواظبًا على أنماط “السلوك غير المناسب” الذي يكرّس دونيتنا وهزيمتنا في العالم المعاصر، وفي أسوئها تجعله فاعلاً في مكافحة الوعي المناسب وأهله، وساعيًا لتدمير ما تبقى من مكوّنات صحية مناسبة عندنا لصالح العدو؛ إما عن عمالة وقصد، وإما عن سوء وعي؛ ينطبق على أهله أنهم ممن (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) أو هم ممن (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنِّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)!
والفاعلون الكبار على نطاق إفساد الوعي يتمثلون في قوى كبرى عالمية، تريد تحويلنا إلى شتات وغثاء من أناس متفرقين لا هدف لهم ولا مشروع نهضة يجمعهم؛ وفي أنظمة وأحزاب متناحرة تتخذ العدو حكَمًا ومناصرًا على الأخ الشقيق، كما كان حال ملوك الطوائف في الأندلس.
ومن أشكال الوعي غير المناسب (أو الوعي الزائف) الكبرى: طرق التفكير التي تركز على الخلافات الصغيرة وتغفل عن المشتركات الكبيرة، وتقلب سلم الأولويات، وتفضّل العدو الوجودي على الأخ الذي نختلف معه في مسائل عابرة قابلة للحل.
ومن أنواع الوعي الزائف ذلك الوعي الذي يستعدي العالم خالطًا بين الأخيار والأشرار فيه، ولا يرى في الآخرين إلا أعداء لا يعاملون بغير لغة القوة؛ وبهذا نساعد أعداءنا الذي يريدون تحريض شعوبهم علينا، وتصويرنا بصورة الشياطين المعادين للبشر (وهي في الحقيقة صورة هذه القوى المتسلطة في مجتمعاتها، والتي يقف ضدها الأحرار عندهم قبل أن نقف نحن ضدهم).
وفي اعتقادي أن من أهم مركبات الوعي، الذي يجب أن تحوزه الطليعة الواعية عندنا، ما أسميه “الوعي المطابق”؛ وأعني به المعرفة الدقيقة بتكوين العالم والعناصر التي يتركب منها، وهذا الوعي الدقيق يتناقض مع الرؤية التي تقسم العالم إلى قسمين: أخيار هم نحن، وأشرار هم كل الناس من غيرنا!
ومع أني قليل الرغبة في ادعاء النطق بلغة فقهية، لكني لا أستطيع هنا إلا أن ألاحظ أن رؤية العالم من منظور “أسود وأبيض” تتناقض بوضوح مع لغة القرآن، التي لا تتوافق مع عمى الألوان؛ بل تقسم العالم إلى أقسام وألوان مختلفة، وترى أن الآخر ليس واحدًا بل هو أنواع وألوان وتيارات مختلفة! في العالم شركاء وأصدقاء يمكن أن نبني معهم عالمًا أفضل وأجمل، وفيه أيضًا قوى تدمير للطبيعة والحضارة والإنسان، نقف ضدها متكاتفين نحن والقوى البنّاءة الموجودة في الغرب والشرق.
– هل هناك قضية محددة، أو عدة قضايا، تراها “كلمة السر” في الخروج من أزمتنا الراهنة؟
لو قلت إني أعلم “كلمة السر” التي تخرجنا من أزمتنا الراهنة لكنت من أسوأ المدّعين! لكني بالفعل أرى أن امتلاكَ “الوعي المناسب” وعَدَّ مسألةِ النهضة مسألةً متعلقة بكل فرد فينا، وبأنه مسؤول في سلوكه اليومي عن تغيير الحالة الانحطاطية التي نحن فيها؛ مما يساعد بلاشك على تغيير الصورة المأساوية التي نحن فيها، والتمهيد للنهضة المرجوة.
– انتقدتَ في سلوك الحركات الإسلامية ما أسميته “ظاهرة فرط التسيُّس”.. ماذا تقصد بذلك؟ وهل الأنظمة غير الديمقراطية تسمح بالتمدد داخل المجتمع ولو تحت لافتات أو أهداف غير سياسية؟
لم أنتقد ما أسميته ظاهرة فرط التسيّس “في سلوك الحركات الإسلامية” فقط، بل انتقدته في مجمل رؤية الفاعلين السياسيين والعاملين في المجال العام عندنا، طيلة القرن الميلادي الماضي والقرن الحاضر، ومن اتجاهات فكرية وسياسية مختلفة؛ فقد ورث “الإسلاميون” عن “القوميين” و”الاشتراكيين” هذا الاعتقاد القائل إن استلام السلطة هو الحل الأول والأخير لمعضلاتنا، وأنه مع السلطة لا يضر شيء وبدونها لا ينفع شيء!
ومن المفارقات أن هذه الظاهرة هي مصادقة على وجهة نظر الطغاة أنفسهم الذين نريد الثورة عليهم! لأن الواحد منهم يرى ويروّج في وسائل إعلامه أنه هو البلد والمجتمع والدولة ولا شيء غيره مهم. ألم تر إلى مصطلحات مثل: “سوريا الأسد”! لكن سوريا ليست الأسد ولم تكن كذلك قط.
وفي سوريا في العصر الحديث أنجز ملايين من العمال والمهندسين والمعلمين والأطباء والعلماء منجزات كبرى منها مثلاً تعريب التعليم. هل تسمع بشخص اسمه الدكتور حسني سبح! هذا الشخص قام منفردًا بتعريب قدر هائل من مصطلحات الطب، أتاحت لسوريا أن تخوض تلك التجربة الرائدة التي هي تدريس الطب باللغة العربية (مع مجمل الفروع العلمية والأدبية الأخرى).
هذا هو فعل المجتمع، ولعلك تعلم أن السلطة في المجتمع المسلم في القرون الطويلة، التي انقضت منذ استشهاد آخر خليفة راشد رضي الله عنه؛ قلما كانت سلطة يرضى الله وعباده عنها! ولكن المجتمع المسلم هو الذي حقق كل هذه المنجزات الحضارية الهائلة التي نفخر بها الآن، وتمت في ظل أسوأ أنواع الحكومات والسلطنات.
من هنا أدعو إلى إعادة الاعتبار إلى مجتمعنا، الذي تتساوى في احتقاره تياراتنا الفكرية والسياسية كلها! وقد كتبت عن هذا كثيرًا. وأنا أؤمن بأن المجتمعات قادرة على التغيير النهضوي، لو وجدت فيها تلك الطليعة الواعية؛ ممن أسميهم “شغيلة ثقافيين”. وهؤلاء يشكلون بؤرة تتوسع بالقدوة والتقليد والمَثَل، من مجموعة لها وعي مناسب ينعكس في سلوك يومي مناسب. وهذا السلوك مما لا تستطيع السلطة قمعه، بل ربما لا يكون لديها بالضرورة رغبة في قمعه إن لم يكن له طابع متسيّس بيّن.
والمسألة ليست مراعاة للسلطة، بل هي مسألة تتمثّل في اعتقادي- الذي ثار عندي منذ الهجمة الهستيرية على بلادنا منذ عام عام 2001- بأن أي سلطة، مهما كانت نزيهة وحسنة النية، لن تستطيع بالفعل- في ظروف التجزئة والتفرّق- مقاومةَ ضروب الحصار الخارجي. ومنذ ذلك التاريخ وأنا أكتب أن مثل هذه السلطة لو قامت، فستحاصرها القوى الكبرى، وتحيل الحياة اليومية للناس تحت حكمها إلى جحيم يدفعهم إلى أن يتمنوا رحيلها، حتى لو كانوا يحترمون نزاهتها وإخلاصها! ولم تأت التجارب اللاحقة بما يدفعني لتغيير هذا الرأي، ومن أكثر ما هو محزن في هذه الأمثلة ما أسموه “سلطة حماس” في غزة! ولعل تجربة حكم محمد مرسي- فك الله أسره- ليست مختلفة عن ذلك، وتشهد لهذا الرأي.
– في كتابك “نهضات مجهضة.. جدل الهوية والفاعلية”، درست خمس تجارب نهضوية تاريخية.. من عمر مكرم إلى عبد الكريم الخطابي، مرورًا بعبد الله النديم ومصطفى كامل وحسن البنا.. هل أفاد اللاحق من هذه التجارب من سابقها؟ وما الدرس الذي يمكن أن تقدمه لواقعنا المعاصر؟
في السنوات الأخيرة أعترف بأني قلّ إيماني بمقدرة المجتمعات لوحدها على الاستفادة من تجارب غيرها، أو من تجاربها هي نفسها؛ وصرت لا أستنكر متحمسًا، كما كنت سابقًا، زعم لوبون الذي قال إن الشعوب ذات ذاكرة قصيرة. لكني أراهن على أن من يستطيع بالفعل الاستفادة من تجارب الذات والغير هم المجموعة من الواعين الممتلكين للوعي المناسب، الذين يستطيعون نقل هذا الوعي بالإشعاع- عبر التقليد والقدوة- إلى شريحة تتوسع باضطراد من المجتمع.
وقد أجريت مرة مقارنة مع نقاشات دارت في بلاد ومجتمعات أخرى حول العلاقة بين المثقفين والجماهير، ومدى مقدرة الجماهير لوحدها- وانطلاقًا من تجربتها الخاصة وتفكيرها العفوي- على امتلاك الوعي المطلوب. وأعيد القارئ هنا إلى كتابيّ “نقد الوعي العربي”، و”من فتى؟ عن الوعي المناسب لمجتمع في خطر”.
– من الواضح أن الغرب حاضر وبقوة داخلنا؛ سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، وسواء في السياسة أو القيم، فضلاً عن الاقتصاد والفنون.. كيف يمكن النظر للغرب من منظور الند، لا الانسحاق أو التبعية؟
ما من ريب في أن الثقافة المسيطرة في العالم اليوم هي الثقافة الغربية، والعالم كله يقتفي أثرها ويحاول تقليدها واستنساخها، ونحن من هذا العالم. والغرب يفرض نموذجه الثقافي بمكوناته كلها، من اقتصاد وعلم وسياسة وفنون، لا على أنه النموذج الأنجح عمليًّا بل على أنه النموذج الأعلى، وما يختلف عنه من نماذج ليس إلا تخلفًا أو شذوذًا وانحرافًا عن الطبيعة السوية.
لكن الرغبة العارمة عند الثقافات الأخرى في التقليد والاستنساخ لا تنجح كما تريد الذات المستَلَبة أو “الذات المثالية” (وهو من مصطلحاتي التي أستعملها دائمًا، ونقيضها هو ما أسميه “الذات الحقيقية”)؛ إذ أن الذات المستَلَبة لا يمكن إلا أن تبقى سطحية طالما نحن نتكلم عن مجتمعات لها تاريخها وظروفها الخاصة، ولا نتكلم مثلاً عن أفراد الجيل الثاني والثالث من المهاجرين إلى الغرب؛ لأن هؤلاء يصبحون بالفعل غربيين لكنهم متعرضون للتمييز بناء على أصول آبائهم وأجدادهم. إن الهوية الثقافية يكتسبها الفرد بصورة حتمية من المجتمع المحيط، ولا يكتسبها من الأسرة مهما فعلت الأسرة.
والسؤال عن “الندية” هو عينه السؤال عن “النهضة”، وفي مسيرة كتاباتي منذ عام 1992 مررت بمرحلتين؛ الأولى: أسميها الآن مرحلة “التأصيل الصرف”، وهي المرحلة التي يمكن لك رؤية ملامحها في كتابي “نحو ثقافة تأصيلية- البيان التأصيلي”. أما المرحلة الثانية، التي بدأت منذ عام 2001، فأسميها مرحلة “التأصيل الفاعل”. ويمكنك أن ترى ملامح هذه المرحلة في جملة الكتابات مثل كتب “مالك بن نبي والوضع الراهن”، و”نهضات مجهضة”، والكتب الأحدث وهي ثلاثية نشرت الجزء الأول منها عام 2015 في كتاب “من فتى؟ عن الوعي المناسب لمجتمع في خطر”، وسيظهر الجزءان الأخيران منها في كتاب واحد عنوانه “الثقافة العربية المعاصرة من الوصف إلى التغيير”.
في المرحلة الأولى، “التأصيل الصرف”، دافعت عن ثقافتنا بلا تركيز على النقد الذاتي، أو الدعوة إلى إجراء تغييرات في بنيتنا الاجتماعية الثقافية. لكني في المرحلة الثانية، وهي مرحلة “التأصيل الفاعل”، وإزاء رؤيتي للمخاطر الوجودية التي تهدد بقاء هذه الثقافة؛ رأيت أنه لابد من تغيير المكوّنات في بنيتنا التي تجعلنا قابلين للهزيمة في الصراع والمنافسة الحضارية العالمية. وقد قلت في سؤال سابق إني أراهن على “الوعي المناسب” لتغيير هذه الصورة.
– عالمنا العربي بعد ست سنوات من هذا الحراك الذي مسَّ أُطرَه السياسية والاجتماعية.. كيف تراه في منظور التحولات الحضارية؟
على الغالب لا تزال عندنا ثمة نظرة موغلة في التفاؤل، لا أستطيع مع الأسف الموافقة عليها. أنا أرى أن الواقع العربي الحالي هو الأسوأ منذ نكبة 1948؛ فقد شُطبت بلاد عربية كبرى من الخارطة السياسية (العراق وسوريا واليمن وليبيا). المسؤول الأول كان الأنظمة الدكتاتورية الأنانية، التي تحجرت واستعصت على الإصلاح وقاومته بالعنف. ولكن هذه الخطيئة الأولى وجدت من يستثمرها، من قوى تريد تمزيق الجماعة العربية إربًا؛ وعلى رأس هذه القوى الكيان الصهيوني وداعموه.
وثمة بلاد أخرى دخلت في حروب استنزاف داخلية مثل مصر، وهذه هي مركز الثقل وعليها الأمل في تعديل الصورة، وأعتقد أن الأعداء يعرفون ذلك، وقد استطاعوا تحقيق نجاح مهم فيها- ولكنه حتى الآن غير حاسم في تقديري- حين توصلوا بالتعاون الواعي أو غير الواعي مع نخب مصرية ثقافية وسياسية، قصيرة النظر ومصابة بالخوف المريض من الإخوان (“الإخوانوفوبيا” إن شئت)، سهلت الانقلاب العسكري، ومنعت ما كان ممكنًا من تطور سياسي يجعل الأحزاب المصرية تكتسب التجربة وتغير من نظراتها الضيقة الأفق. وهذا يخص الإخوان أنفسهم الذين كانوا يسيرون في طريق اكتساب منظورات أكثر مناسبة للواقع؛ وهو ما تراه مثلاً في مفاهيمهم الجديدة التي لم يتح الانقلابيون لها الوقت لتنضج، مثل مفهوم “الدولة المدنية”. وحين انقلبوا على التجربة فتحوا المجال للغلاة؛ وعلى أنقاض التجربة المدنية المصرية- التي كانت قابلة للتعميق- ظهرت بعد الانقلاب أكثر التجارب غلوًا وضيقَ أفقٍ وتهديدًا لصورة الإسلام الحضارية.