لطالما سمعنا أن رحلة الإسراء والمعراج كان سببها؛ التسرية عن رسول الله بعد الذي أصابه من رحلة الطائف؛ والاحتفاء به .

ولا شك أن هذه الرحلة لم تخلُ من مظاهر الحفاوة والتكريم لرسول الله ، ولكن اشتمال الإسراء والمعراج على مظاهر الاحتفاء والتكريم لا يستلزم بالضرورة أن يكون هذا هو المقصد من وراء هذا المسرى العجيب.

لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا

وإذا كانت الآيات القرآنية التي تحدثت عن المسرى قليلة إلا إنها لم تغفل المقصد من ورائه، قال تعالى : {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: 1] جاء ذلك تعليلا وبيانا للمقصد: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الإسراء: 1].

يقول ابن عاشور  عن رحلة الإسراء والمعراج  : وقوله: : {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} تعليل الإسراء بإرادة إراءة الآيات الربانية، تعليل ببعض الحكم التي لأجلها منح الله نبيًّه منحة الإسراء، فإن للإسراء حكمًا جمة تتضح من حديث الإسراء المروي في «الصحيح» .

وأهمها وأجمعها إراءته من آيات الله تعالى ودلائل قدرته ورحمته، أي لنريه من الآيات فيخبرهم بما سألوه عن وصف المسجد الأقصى. ولام التعليل لا تفيد حصر الغرض من متعلقها في مدخولها.

وإنما اقتصر في التعليل على إراءة الآيات؛ لأن تلك العلة أعلق بتكريم المسرى به، والعناية بشأنه، لأن إراءة الآيات تزيد يقين الرائي بوجودها الحاصل من قبل الرؤية.[1]

حق اليقين

ومعنى كلام ابن عاشور أن الله أراد أن يُرِيَ رسوله  من آياته الكبرى، ما يثبت به فؤاده، ويزيد به يقينه، وينقله من حالة علم اليقين إلى حالة عين اليقين، بل إلى حالة حق اليقين.

وذلك أن لليقين ثلاث درجات:

الأولى : علم اليقين.

الثانية : عين اليقين.

الثالثة : حق اليقين.

فنحن نعلم بوجود الجنة علم اليقين، لكن إذا شاهدنا الجنة، أصبح علمنا بها عين اليقين، فإذا تناولنا قطفا من عنبها وصلنا إلى مرحلة حق اليقين، وهي أعلى درجات اليقين.

لماذا حق اليقين؟

إذا كانت الآية بينت لنا أن كشف بعض الآيات للنبي المقصد الأعظم من الإسراء والمعراج ، إلا إنها لم تسعفنا عن سبب هذا الكشف؟ أي لماذا أراد الله أن ينقل نبيه إلى حالة حق اليقين؟

لكن إجالة النظر في كتاب الله عز وجل تكشف لنا عن السبب من وراء ذلك.

لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى

لقد حدَّثَنا القرآن عن شاب يسير بين جنبات صحراء موحشة في ليلة شاتية مطيرة ، شديدة الرياح، يسير هو وزوجته عائدا إلى موطنه الذي غادره منذ عشر سنوات. فضلَّ هذا الشاب الطريق ، فأراد أن يوقد نارًا يستدفئ بها ويستهدي بنورها معالم الطريق، فجعل كلما يقدح الزناد ينطفئ بفعل الرياح والمطر.

وفجأة يبصر من بعيد نارًا، فيقول لأهله : { امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَامُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 13 – 24] [طه: 10 – 24].

لقد كانت كل مشكلة موسى أن يجد نارا تدفئه هو وأهله، وتهديه طريق العودة، إنها هموم صغيرة، ومشكلات أسرية ضيقة، لم يكن يعلم أنه على موعد سيغير مسار حياته ويوسع آفاق حياته، لتتحول همومه الأسرية إلى هموم قومية كبرى، ليحمل رسالة ربه لاستنقاذ بني إسرائيل من فرعون الذي وصفه الله بقوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس: 83]

لكن، هل يمكن لهذه النقلة أن تتم هكذا دون أن يحصل موسى على جرعة من اليقين تثبت فؤاده أمام جبروت فرعون؟ بالطبع لا.

لذلك أراه ربه آية تلو الآية، من الآيات التي تدل على قدرة الله وأن أزِمَّة الأمور كلها بيده، وأن فرعون وملأه وحاشيته مقهورون بقوة الله عز وجل وقدرته.

لكن هذا الكشف من الله لموسى بهذه الآيات لم يكن  لإثارة إعجابه وفقط، إنه إعداد وتربية، ولذلك تقول الآيات : {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} [طه: 23] بعدها مباشرة : { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه: 24].

وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ

وكذلك نجد القرآن يحدثنا عن سيدنا إبراهيم : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: 75]

فلم يكن الكشف لإبراهيم عن ملكوت السماوات والأرض عبثا، ولا تسلية، ولا لمتعة المشاهدة؛ ولكنه كان ” ليَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ”.

المجابهة الكبرى

وبهذا نعرف أن المقصد من وراء الإسراء والمعراج : رؤية الآيات، والمقصد من وراء رؤية الآيات، أن يري الله رسوله من آياته الكبرى توطئة لمرحلة المجابهة القادمة، التي ستنشأ مع ولادة الدولة الجديدة في المدينة.

فلئن كان النبي ، يعاديه كفار مكة اليوم، فإنه تنتظره في قابل الأيام عداوات أشرس وأكبر، سيعاديه اليهود في المدينة، وستنشأ على ضفاف دولة الإيمان مجموعات من المنافقين يظهرون مناصرته ويستبطنون عداوته، ويعملون في الخفاء على التخلص منه ومن دينه ، ثم سيعاديه الفرس والروم.

نعم كان يوم الطائف داميًا وقاسيا، لكنه ليس آخر أيام الشدة في حياته ، فلم تكن أيامه إلا سلسلة من الابتلاءات القاسية المتواصلة ، التي يؤمر فيها بالنصب بعد الفراغ {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } [الشرح: 7] حتى يلقى الله عز وجل.


[1] – التحرير والتنوير (15/ 20)