يثير لفظ “النظرية” ذعرا واضطرابا لدى الدارسين وضيقا وتبرما لدى عموم الناس، وهو أمر مفهوم إذ تثار حولها جملة أفكار من قبيل : أنها ترف فكري لا تقوى عليه إلا المجتمعات المتقدمة، وأنها تتجاوز إدراكنا ويتعذر فهمها فضلا عن توظيفها واستخدامها، وأنه يمكن الوثوق بالنظرية في العلوم الطبيعية والتطبيقية لأن نتائجها بادية للعيان وقابلة للاختبار أما النظرية الطبيعية والإنسانية فلا يمكن الوثوق بها، ويذهب البعض إلى أنه يمكن الانطلاق من دون نظرية في بعض المجالات، ويستدلون على ذلك بأن علماء الحضارة الإسلامية لم ينطلقوا من نظريات بعينها، رغم أن مطالعة أي كتاب لهم يشي بأن وراءه منطقا ونسقًا نظريًا محكمًا سواء في الصياغة أو في الأدوات المستخدمة أو في نظام الاستدلال أو في التقسيم المنهجي وإلحاق الفرع بالأصل والمثيل بمثيله والنظير بنظيره، الأمر الذي يبرهن على وجود إطار نظري كامن إذ لا يمكن تصور عمل معرفي من دونه. وإذا كانت النماذج النظرية أو النظرية الاجتماعية حاضرة في أي عمل بحثي قديما وحديثا؛ فما هي النظرية ومما تتألف، وكيف يمكن التمييز بين النظريات جيدها ورديئها؟
أبعاد النظرية وأنواعها
يعرف قاموس أكسفورد النظرية بأنها ” افتراضات أو منظومة أفكار تروم إلى تفسير شيء ما استنادا إلى مبادئ عامة مستقلة عن الشيء المراد تفسيره”، أما قاموس American Heritage فيركز على شرح طبيعة هذه المبادئ وما يشترط فيها من” الاختبار مرارا، وقبولها على نطاق واسع، وإمكانية استخدامها للتنبؤ وخصوصا في العلوم الطبيعية”، على حين يعرفها قاموس كامبريدج بأنها “مجموعة من القواعد العامة يستند إليها موضوع البحث أو أفكار يتم اقتراحها لتفسير حقائق أو وقائع”.
وبالنظر في هذه التعريفات الثلاثة نجد أن المجال التداولي للنظرية يدور في فلك مجموعة مفردات وهي: افتراضات، مبادئ أو قواعد، تفسير، اختبار، قبول، تنبؤ. وعليه يمكن القول أن النظرية عبارة عن: مجموعة مبادئ أو قواعد تم اختبارها وقبولها على نطاق واسع، ويتم توظيفها في البحث بقصد تفسير الوقائع أو العلاقات أو الأشياء، والتنبؤ بها.
وتنطوي النظرية الاجتماعية على أربعة أبعاد على الأقل، وهي:
– البعد المعرفي: وهو البناء النظري العام أو النواة الصلبة ويشمل: افتراضات النظرية، أدواتها التحليلية، تساؤلاتها، منهجها في التفسير وما إلى ذلك.
– البعد الذاتي: وهو الخبرات والآراء الذاتية والأيديولوجية للمنظر التي تتسرب إلى النظرية -مهما تكن مواربة ذلك التسرب-، وهي ذات تأثير مزدوج فهي تؤدي إلى إهمال بعض الجوانب المبحوثة، كما تؤثر في الكيفية التي يتم بها التعامل مع الموضوع المبحوث.
– البعد التأملي أو الانعكاسي: ويقصد به أن النظرية جزء من الحياة وهي طريقة لفهمها، فلابد لها أن تعكس ما يجري ما هو حاصل “هناك بالخارج” أي ما يحدث في الواقع المتغير بفعل التطور التقني، وزادت أهمية هذا البعد في العقود الثلاثة الأخير وأصبحت النظرية تعكس هذا الواقع مما أدى اختفاء بعض النظريات وصعود أخرى، وانقسام بعضها الآخر إلى مدارس وتيارات.
– البعد المعياري: ويعني أن أي نظرية تستخدم لوصف الواقع لابد أن تحمل في ثناياها سواء تصريحا أو تلميحا افتراضات عما يجب أن يكون عليه شكل الواقع في صورته المثلى، وهو ما يعني أن النظرية ليست أداة جامدة تصف الواقع وتحدد مشكلاته، وإنما تحمل تصورا عن شكل الواقع وما هو مقبول وما هو مفروض به. وهي بهذا المعنى ليست فوق الواقع وإنما هي جزء من صراعاته ومشكلاته.
والنظريات ليست على شاكلة واحدة وإنما تتفاوت فيما بينها ويتم تصنيفها وفق العمليات الرئيسة التي تقوم بها، فبعض النظريات تصنف على أنها “نظريات تجريدية” لإسرافها في التعميم وإجراء العمليات التجريدية المتواصلة مثل النظرية البنيوية، والبعض الآخر يُصنف ضمن “النظريات الوصفية” لاهتمامه بالتنظيم والوصف أكثر من اهتمامه بتحديد الآليات السببية والآليات الداخلية ومن أمثلتها النظرية الوظيفية البنائية، وأخيرا تدرج بعض النظريات ضمن فئة “النظريات التفسيرية” لأنها نحو البحث في العمليات السببية وآلياتها، وكيفية حدوثها، ويسود الاعتقاد في الأوساط البحثية أن النظرية التفسيرية هي أقوى أنواع النظريات لأنها تقدم كشوفات جديدة على صعيد الفهم والتصور.
أسس اختيار النظرية
مسألة اختيار النظرية المثلى لموضوع البحث في مجال العلوم الاجتماعية هي احدى الإشكاليات التي تواجه الباحث في مرحلة الدراسات العليا الذي يجد نفسه أمام نظريات لا يدري كيفية المقارنة بينها واختيار أفضلها وأكثرها ملائمة لموضوع بحثه، والحق أن النظريات ليست سواء فبعضها يفضل بعضا، بل إن بعضها يصدق عليها وصف “النظرية الرديئة” إن جاز التعبير، وبعضها يصح وصفه ب”النظرية الجيدة”، ورغم صعوبة الجزم بأن نظرية ما جيدة وأخرى رديئة إلا أنه يمكن وضع معايير لكليهما، ولنشرع أولا بمعايير ضعف النظرية وهي:
– الاقتباس من الحقول المعرفية الأخرى: عانت العلوم الاجتماعية من سيطرة نظريات ومناهج العلوم الطبيعية، وليس أدل على ذلك من أن نظرية داروين التطورية وجدت صداها فيما يسمى بالداروينية الاجتماعية، كما كان لكتاب (بنية الثورات العلمية) لتوماس كون أبلغ الأثر عليها، وهو كتاب في تاريخ العلوم الطبيعية اقترح ما أسماه ” النموذج الإرشادي أو المنظور Paradigm ” وهو إطار نظري يحوي المفاهيم والأدوات والإجراءات، وقد اقتبس منظرو علم الاجتماع فكرة النموذج وطبقوها في أبحاثهم الاجتماعية، لكن جدلا جرى مؤخرا حول مدى فاعليته في مجال العلوم الاجتماعية حيث ذهب المعارضون إلى أنه لا يصلح لها لأسباب متباينة؛ منها: تعقد موضوع العلوم الاجتماعية، واستحالة عزل جوانب من الحياة الاجتماعية واختبارها بمعزل عن الجوانب الأخرى، وأن النشاط الإنساني يستند إلى الوعي الذاتي والتأمل وهي أمور لا تدخل تحت طائل البحث التجريبي، ويصبح استخدام النموذج في هذه الحالة يصبح اختزالا للواقع الذي يتداخل فيه الموضوعي والذاتي والمادي والروحي، وعليه يجدر بالباحث البحث عن نظرية أكثر تركيبا لتعبر عن الواقع المتشابك الذي تتداخل فيه الأبعاد وترتبط إلى حد التماهي بدلا من نظرية تختزل الواقع عند حد واحد.
– المصداقية: تميل بعض النظريات إلى التطرق إلى بعض القضايا ذات الصلة الضعيفة بالواقع ومشكلاته لمجرد المتعة العقلية أو لأجل استعراض مدى قوة النظرية وأدواتها، فعلى الباحث أن يتخير النظرية التي تعالج قضايا واقعية غير مفتعلة وتسعى مباشرة إلى تفسير الواقع دون إلغاز وتعقيد.
– المنطق الشكلي: تسعى النظريات عموما نحو الترابط المنطقي، بل إن هذا الترابط هو أحد مظاهر جودة النظرية، لكن بعض النظريات تبالغ في ذلك وتمارسه بتطرف مما يضعف النظرية لأنه بينما تنحو النظرية نحو الترابط والإحكام فإن الواقع أو بعبارة أدق العالم غير ذلك فهو يتسم بأنه غير منتظم ولا منطقي أو هو منطقي بصورة أخرى عن النظرية، وبالتالي يجب أن تكون النظرية قادرة على الاعتراف بهذا الاختلاف والتباين وإلا استغرقها الجدل المنطقي منصرفة عن مهمتها الأساسية وهي تفسير الواقع الاجتماعي المعيش وفهمه.
– الخلط بين الوصف والتفسير: وهما عمليتان أساسيتان ينبغي أن تنهض بهما النظرية، ويمكن تعريف التفسير بأنه “إخبار بشيء ما لا نعرفه، أو ليست لدينا القدرة على اكتشافه بمجرد النظر” أي هو استنتاج ذهني وكشف عقلي، وأما الوصف فهو “إخبار بشيء يمكن اكتشافه بالنظر فقط”، ويبدو أن بعض النظريات تخلط بينهما حين تصف شيئا ما مستخدمة عبارات نظرية مجردة ثم تزعم أنها تقدم تفسيرا، متعللة بعشرات الصفحات التي استخدمت فيها كلمات متقعرة التي إذا تم تبسيطها وجدناها لا تخبرنا إلا بما هو بديهي.
وعلى الجهة المقابلة، لا يمكننا بصورة حاسمة وقطعية أن نؤكد أن نظرية ما صائبة وأخرى خاطئة، لكن يمكن الإشارة إلى بعض المعايير التي تصلح أساسا للمفاضلة، فالنظرية الجيدة هي تلك التي تولي عناية كبيرة للتفسير، وعادة ما يتخذ التفسير شكل البحث عن الأسباب، لكن المسألة ليست بهذه البساطة إذ لا يكفي للنظرية أن تقترح أن شيئا ما يسبب شيئا آخر، بل لابد لها أن تبين كيف تقع العملية السببية، وهذا الأمر ليس يسيرا بحال لأن السبب قد لا يكون شيء محدد أو واقعة معينة، بل ربما كان ترتيب معين للعلاقات يؤدي إلى نتائج مختلفة إذا تغير، ويمكن أن نضرب لذلك مثالا بالموسيقى التي يتألف نظام النغمات بها من اثنتي عشرة نغمة، وكل أنواع الموسيقى في العالم لا تخرج عنها لكن ما يميز قطعة موسيقية عن أخرى هو ترتيب هذه النغمات.
ومن المعايير التي تسم النظرية الجيدة الترابط المنطقي والاتساق النظري بين المقدمات والنتائج، فالنظرية التي تناقض نفسها باستمرار يجب النظر إليها بعين الريبة، وكذلك القابلية للتطبيق والبرهنة فبعض النظريات لا تبني فرضياتها على أدلة وبراهين قوية وتصبح عرضة للدحض بسهولة، وأخيرا يفضل أن تكون النظرية غير أحادية البعد – كالنظرية الماركسية مثلا التي تفسر الواقع من منظور اقتصادي أحادي، ولكن بعض النظريات تجمع بين أبعاد ومنظورات مختلفة وهذه تتمتع بقدرة أكبر على تفسير الواقع.
الخلاصة أن النظرية قرينة البحث ولا يتصور إمكانية وجود بحث من دون نظرية، وعلى الباحث أن يتخير النظرية بعد قراءة وتمحيص إذ أن النظريات ليست سواء وبعضها يفضل بعضا.