من الهدي القرآني التبين من الأنباء وعدم تلقفها والتسرع في تصديقها دون تحقق من صحتها، لا سيما تلك التي تنبع ممن ضعف وازعه الديني في نفسه، إذ “ضعف الوازع يجرؤه على الاستخفاف بالمحظور وبما يخبر به في شهادة أو خبر”([1])، مما قد يترتب عليه مواقف وتصرفات فيها إضرار بالآخرين أو بالصالح العام إضرارًا عاقبته الندم حيث لا ينفع الندم، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6).
والمقصود بالتبيّن هو قوة التثبت من صحة الأنباء. والحكم هذا لا يخص الفاسق، بل يدخل فيه غيره([2]). والضابط في هذا تَحقُّق التبيّن كالبحث في عدالة الراوي للنبأ، وإذا كان الراوي ينقل النبأ عن غيره فعدالته لا تكفي، بل لا بد من التأكد من عدالة من نُقل عنه، وهكذا، والراوي المجهول الذي لا يُعرف له فسق داخل في الحكم أيضًا. وإنما نصّت الآية على الفاسق؛ تنبيهًا على أن الأصل في الأنباء المؤذية للصف المسلم إنما ينقلها ويشيعها الفسقة والكذبة. لكن إذا نقل المسلم خبرًا من هذا النوع، فليس هذا بالضرورة دليلًا على فسقه، بل قد يكون بسبب غفلته أو ثقته بمن ينقل عنه، والله أعلم([3]).
وهذا “الأمر بالتبَيّن أصل عظيم في وجوب التثبت في القضاء وأن لا يتتبع الحاكم القيل والقال ولا ينصاع إلى الجولان في الخواطر من الظنون والأوهام”([4]).
وفي ضوء ذلك تتضح خطيئة كل من يتسرّع في نقل الأخبار المؤذية ويروّج الأنباء دون تبيّن. ولا يُعفى من ذلك من يقول بعد نقل الخبر بدون تحرٍّ وتثبت “كما يقولون”، أو “إذا صح”، أو “منقول”، أو “هل هذا صحيح؟”، أو “جاءني ممن أظن أنه يتحرى”، أو ما شابه ذلك من التبريرات؛ لما قد يترتب على مجرد النقل الأذى أو البلبلة أو الفتنة، ولا سيما مع وسائل التواصل الاجتماعي التقني التي تشيع عبرها الأنباء بسرعة فائقة.
وإذا كان هذا النقل خطيئة في الأنباء التي قد يترتب عليها شيء من الأذى على العموم، فإنها خطيئة أشنع وإثم أعظم في الأخبار الشنيعة والإشاعات المغرِضة بمختلف أنواعها، والتي منها ما يوقد نار الفتنة في المجتمع، ومنها ما تعتبر من أدوات الحروب النفسية التي تقف وراءها أجهزة أو مجموعات متخصصة ماكرة معادية أو منافقة.
ويجدر بالذكر هنا أن الإشاعات يمكن تصنيفها حسب أغراضها إلى أربعة أنواع([5]):
- إشاعات مُنفّرة؛ لغرض التضليل الخارجي الذي لا يتورع فيه الخصم من الكذب المحض، حيث إن مَن هُم في الخارج غير مطلعين على ما يجري في الداخل، فيمكن أن تفعل الإشاعات فيهم فعلها، وتحقق غرضها بقوة.
- إشاعات مُفرّقة؛ لغرض تفكيك لحمة المجتمع وتمزيق صفه الداخلي وإثارة القلاقل داخله، وهذا ما يحرص على تحقيقه المنافقون والطابور الخامس في كل عصر، عبر السعي لنشر الأخبار الكاذبة لإثارة الفتن والبلبلة والشقاق داخل المجتمع.
- إشاعات مثبّطة؛ لغرض تخذيل الصف الداخلي في المجتمع، والفتّ في عضده، وتوهين عزيمته، وإحباطه، وهو من أخطر أسلحة الحرب النفسية؛ لعدم إتاحتها الفرصة الكافية لمعالجة آثارها السريعة في الغالب.
- إشاعات فاحشة؛ وهي التي تتضمن القذف في الأعراض والطعن في الأنساب؛ وتكمن خطورتها في كونها تمسُ الشرف والأخلاق، وقد يكون لها من الآثار الشنيعة ما لا يقل عن الأنواع الأخرى، حيث إنها قد تؤدي إلى تشويه السمعة والتنفير، وقد تؤدي إلى إرباك الصف وإرجافه، وقد تؤدي إلى الفتِّ في العزائم، هذا فضلًا عن الإيذاء الشديد والإيلام المرير الذي تُحدثُه هذه الإشاعات الفاحشة في أعماق النفوس.
ولشدة خطورة هذه الإشاعات بأنواعها المختلفة؛ حذّر الله عز وجل في كتابه الحكيم تحذيرًا شديدًا من صناعتها وإطلاقها، وشنّع على من يقوم بذلك، وأنذرهم باللعنة والعذاب العظيم في الدنيا والآخرة؛ للتهويل عليهم وزجرهم لعلهم يتقون ذلك فيتوبون من صنيعهم. قال الله تعالى في سورة النور مشنّعًا على الذين يقذفون الأعراض كذبًا وإفكًا ويشيعون كذبهم وإفكهم: { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النور: 23-24).
وقال تعالى في سورة الأحزاب مهددًّا المنافقين بالعقاب واللعنة، إن لم يقلعوا عن إيذاء المؤمنين والإرجاف بإشاعة الأخبار الكاذبة أو المسيئة: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (الأحزاب: 60-61).
كما حذّر الله تبارك وتعالى في القرآن الحكيم من مجرد نقل هذه الإشاعات المغرضة، وشنَّع على من يحب لها أن تشيع، ووعد من يقوم بذلك بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور: 19). والفاحشة هي “الفعلة البالغة حدًا عظيمًا في الشناعة، وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه”([6]).
ومع هذا التحذير الشديد من نقل الإشاعات والتشنيع الغليظ على من يحب شيوعها؛ جاء التنبيه في الكتاب الحكيم إلى أخطر أسباب انتشار الإشاعات، وهو “التلقي بغير علم، والنشر بلا تفكير، وهي ظاهرة مجتمعية طاغية، خاصة فيما يُستغرب من الأخبار، ويثير الفضول والاهتمام عند الناس”([7])، قال الله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15).
وختمت الآية بهذا التوبيخ الشديد: { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}، أي: “تحسبون الحديث بالقذف أمرًا هينًا. وإنما حسبوه هينًا؛ لأنهم استخفوا الغيبة والطعن في الناس، استصحابًا لما كانوا عليه في مدة الجاهلية، إذ لم يكن لهم وازع من الدين يزعهم… فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئًا هيّنًا، وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق“([8]).
والقرآن الحكيم “وضع لنا قاعدة ذهبية لمكافحة جميع أنواع الإشاعات وإبطال مفعولها بسرعة قبل أن تتمكن في المجتمع، وهذه القاعدة هي: التكذيب الفوري للإشاعة اعتمادًا على سوء الظن بمصدرها وحسن الظن بالمؤمنين”([9])، كما نص القرآن على ذلك في سياق معالجته لحادث الإفك المبين والبهتان العظيم: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (النور: 12)، {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16). إن القرآن هنا يدعو إلى سرعة التكذيب والجزم بأن الإشاعة إفك مبين وبهتان عظيم، “بل القرآن عكس القضية تمامًا ليجعلها في وضعها الصحيح، فليس النافي يحتاج إلى الحجة والبرهان، وإنما مطلقو الإشاعة هم الذين يحتاجون إلى ذلك”([10])، فقال: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النور: 13).
وبذلك يتضح خطأ “من يظن أن منهج الإسلام إزاء الإشاعات التي يطلقها العدو هو التثبت والتحقيق والمحاكمة القضائية”([11])، والذي يعرف مكر الفتّانين والمغرضين وطبيعة الحروب النفسية وصناعها وكيفية توظيفهم للإشاعات يدرك أن هذا غير سديد؛ “لأنه في الكثير من الأحيان تكون الإشاعة قد آتت ثمارها السيئة وفعلت فعلها في النفوس قبل أن يتمكن رجال التحقيق من الوصول إلى الحقيقة … وهذه الإشاعة لا تكافح بالمنهج التحقيقي؛ لأن المسألة مسألة وقت .. فالعدو لا يهمه بعد هذا ]أي بعد أن يتحقق غرض الإشاعة[ أن يعرف الناس الحقيقة أو لا يعرفون”([12]).
ولا يقتصر هذا على الإشاعات وقت الأزمات أو الحروب التي تعمل فيها الإشاعة عملها على الفور؛ “بل حتى في الإشاعة ذات المفعول المديد، فإن التوقف فيها ورعًا وتثبتًا قد يمنحها بعض المصداقية، وهذا هدف يرضى به الخصم”([13]).
مقتبس من مقال: ” كيف عالج القرآن الحكيم أدواء العصبية الجاهلية؟ ” للدكتور محمد أبوبكر المصلح، المنشور في موقع إسلام أون لاين. 5>
([1]) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير الآية 6 من سورة الحجرات.
([2]) مجالس النور في تدبر القرآن الكريم وتفسيره بمنهج عملي وتربوي جديد، د. محمد عياش الكبيسي، دار نشر جامعة قطر، ج3، ص: 1511.
([3]) المصدر السابق.
([4]) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير الآية 6 من سورة الحجرات.
([5]) استفدنا هذه الأنواع من الإشاعات ولخصناها بتصرف من البحث النوعي والمفيد جدًا في موضوعه “منهج القرآن في مكافحة الإشاعة”، د. محمد عياش الكبيسي، مجلة الأحمدية، الصادرة عن دار البحوث للدراسات الاسلامية واحياء التراث بدبي، العدد 5، محرم 1421هـ/ إبريل 2000م، ص: 135-170.
([6]) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير الآية 19 من سورة النور.
([7]) مجالس النور في تدبر القرآن الكريم وتفسيره، د. محمد عياش الكبيسي، ج2، ص: 948.
([8]) تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير الآية 15 من سورة النور.
([9]) “منهج القرآن في مكافحة الإشاعة”، د. محمد عياش الكبيسي، ص: 152.
([10]) المصدر السابق، ص: 153
([11]) المصدر السابق.
([12]) المصدر السابق، ص: 152-153.
([13]) “منهج القرآن في مكافحة الإشاعة”، د. محمد عياش الكبيسي، ص: 153.