أحد أوجه أزمة أمتنا اليوم هو جهلها بتاريخها مما أربك حاضرها وجعل مستقبلها غامض الملامح، ومن أقبح ذلك الجهل بكثير من الأعلام والعلماء الذي أنجبتهم هذه الأمة، مما جعلها تتشبث بكل عبقري أو ناجح في تاريخ الأمم الأخرى، ولا ضير في التعرف على تاريخ الآخرين إذا كان ذلك بدافع التوسع والإفادة من أفكارهم ورؤاهم، ولكن القبيح هو أن يكون ذلك بدافع الجوع المعرفي، وخصوصا إذا صاحبَه انبهار غير مبرر.
كنت أعجبت بذكاء الضابط الفرنسي جان فرانسوا شامبليون (23 ديسمبر 1790 – 4 مارس 1832) الذي استطاع أن يفكر رموز الخط الهيروغليفي من خلال استعانته ـ”حجر رشيد” الذي اكتشف بمدينة رشيد الواقعة على مصب فرع نهر النيل في البحر المتوسط في 19 يوليو 1799 إبان الحملة الفرنسية وقد نقش عام 196 ق.م. وهذا الحجر مرسوم ملكي صدر في مدينة منف عام 196ق.م.
استطاع ذلك الشاب الفرنسي وهو في ربيعه التاسع عشر أن يفك رموز ذلك الخط الغريب مستعينا بذكائه الحاد ومؤسسا على ما كان العالم البريطاني توماس يانج فد اكتشفه قبل ذلك من خصائص الكتابة الهيروغليفية وأنها تتشكل من دلالات صوتية وأن أسماء الملوك تكتب فيها داخل أشكال بيضاوية، فقام شامبيليون بمقارنة خطوط “حجر رشيد” باللغة اليونانية والعامية المصرية في عملية باهرة حتى اكتشف تلك الرموز، وقد فتح اكتشاف شامبليون آفاق التعرف على حضارة قدماء المصريين وفك ألغازها، وترجمة علومها بعد إحياء لغتهم بعد مواتها عبر القرون. وأصبحت الهيروغليفية وأبحديتها تدرس لكل من يريد دراسة علوم المصريات، والحجر أخذه البريطانيون من القوات الفرنسية، ووضعوه في متحف لندن .
بعد ذلك وقفت أثناء مطالعتي لكتاب طبقات اللغويين والنحويين للزبيدي على قصة مشابهة وقعت للخليل بن أحمد الفراهيدي (100 ـ 170 هـ)، قال الزبيدي: “يُروى أن ملك اليونانية كتب إلى الخليل كتابًا باليونانية، فخلا بالكتاب شهرًا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، فقال: قلتُ: لا بد له من أن يُفتَح الكتاب ببسم الله أو ما أشبهه، فبنيت أول حروفه على ذلك، فاقتاس لي. فكان هذا الأصل الذي عمل له الخليل كتاب المعمَّى”.
فالخليل عاش تجربة فذة مع هذا النص الأجنبي، فاختلى به شهرا كاملا، استطاع بعده أن يفك شفرات اللغة اليونانية –رغم جهله بها- من خلال لعبة ذهنية خارقة ومقايسات شبه مستحيلة، “فاقتاس له” الكتاب وعرف ما فيه.
وليس الأمر بمستغرب على رجل مثل الخليل بن أحمد، فقد كان صاحب عقل رياضي فريد وذكاء وقاد، جعله يضع كتاب أول معجم عربي (كتاب العين) وفق عملية رياضية دقيقة أحصى بها احتمالات اللغة العربية مستعملها ومهملها، ثم هداه عقله الحاد إلى اكتشاف القوانين الحاكمة للشعر العربي فوضع علم العروض من غير مثال سابق، ولم يستطع من بعد أن يستدرك عليه إلا القليل في ذلك العلم، فهو الذي وضعه رأسا وأسسه علميا بوضع مصطلحاته الرئيسة والفرعية.
ومما يدل على أن عقله كان عقلا علميا محضا تركه لعلم النجوم بعد أن تعلمه وغاص إلى أعماقه فأدرك أنه علم شعوذة وخرافة لا يقوم على أسس علمية ومنطقية واضحة، فقد روى الزبيدي عنه قال: “ونظر في النجوم فأبعد النظر، ثم لم يرضَ بذلك، فقال:
أَبلغا عنِّي المنجِّمَ أنِّي*** كافرٌ بالذي قضتْه الكواكبْ
عالم أنَّ ما يكون وما كا*** ن بحتْمٍ من المهيمن واجبْ “
ويعتبر الخليل أيضا من مؤسسي علم “المعمَّى” وهو فن كلامي يقوم على الترميز وفق طريقة معينة لا يفهمها من اتفق معه على تلك الرموز، ومثاله في عصرنا الحاضر اللغة المشفرة التي تتخاطب بها أجهزة المخابرات اليوم، حيث يذكر بعض المؤلفين أن من شروط “المعمى” أن يكون للكلام معنى مستقيم ظاهر غير مقصود بحيث إذا نظر فيه غير المخاطب به فهمه على أنه كلام عادي.
ولم يهتم العرب كثيرا بالمعمى بعد الخليل بن أحمد بل إن الجاحظ رأى أنه ليس علما مفيدا، وقد ممن اشتهر به بعد ذلك كيسان مستملي أبي عبيدة الذي قال فيه الجاحظ: “كان كيسان يسمع خلاف ما يقال، ويكتب خلاف ما يسمع، ويقرأ خلاف ما يكتب، وكان أعلم الناس باستخراج المعمى”.
وقد ذكر مصطفى صادق الرافعي في كتابه تاريخ الأدب العربي أنه ظل علما مهمشا حتى وقع في أيدي العجم فدونوه واستنبطوا قواعده وأنزلوه في رتبة بين الفنون والعلوم، وأن أول من فعل ذلك منهم شرف الدين علي اليزدي الفارسي صاحب تاريخ ظفر نامه في الفتوحات التيمورية.
ولو انتبه له العرب لما احتاجوا إلى أن يكون عالة في التشفير والترميز على الغرب، وقد عرفوا هذا العلم منذ أكثر من 13 قرنا، ولكنهم العرب تضيع بينهم الدرر واللآلئ فلا ينتبهون لها ولا يهتمون بها إلى أن تصبح في يد غيرهم فيبدأون البحث عنها عنده، لقد ضاع “المعمى” كما ضاع العقل الرياضي لواضعه الخليل بن أحمد ولم يهتم به إلا في إطار عروض الشعر .
فمتى سنرجع إلى تراثنا لقراءته بعين الواثق لا عين المرتاب الشاك، ولا تعني قراءة التراث بعيون واثقة أخذ كل ما فيه دون نقد وتمحيص وإنما تعني قراءته بتحر من عقدتي التقديس والتنقيص حتى يكشف عن أسراره وخباياه.