مع مجيء ربيع الأول وظهور هلاله في ليلته الأولى.. تقفز الأذهان لتستعيد تفاصيل الحدث الذي ارتبط بهذا الشهر في يومه الثاني عشر، وتبدأ في سرد قصة المولد، فتنتظر الأذهان لحظة الولادة التي عنت للعالم على امتداده الجغرافي والتاريخي، حياة جديدة عنوانها “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، وهذه الرحمة التي جاء بها المولود الجديد، تمثلت في إحدى تجلياتها في مثال وطريقة، موضوعة أمام العالم على اختلاف تنوعاته “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعن”.
وبقدر ارتباطك بصاحب الذكرى وبمعنى كونه رحمة مهداة تكون قد اقتربت من تحقيق رمزية الولادة في ذاتك كل سنة قياسا على مبدأ الصحابي القائل “تعال بنا نؤمن ساعة “: “تعال نولد كل سنة”.
ليس في ذكرى الميلاد مجرد قصة تتناقلها كتب التاريخ والسير، بقدر كونها ميلادا للإنسان والعالم؛ ففي داخل كل منا جاهلية، وأصنام، وعلى الطرف الآخر هناك غار حراء، ونفس متأملة تبحث وتفكر، منتظرة لحظة الميلاد التي تنقذها من جاهلية يعدو القوي فيها على الضعيف ويأكل الغني الفقير وتمجد الأصنام وتعبد من دون الله.. لعل لحظات الميلاد مؤلمة، ولعل النفس تقول: “يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا”، لعلها تضطرب إلى أن يأتيها جواب يهدئ من ألمها وتخوفها “فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا”
الميلاد الجديد بعد طول هيام وضياع سيكون أشبه بالحياة بعد إيقان بالموت “لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح” .
استرجاع الذكرى يكون في محاولة الولادة من جديد.. أن نكون نحن الأم الوالدة والنفس المولودة، والقابلة المنتظرة للحظة الحياة الأولى.. لكن هذا الميلاد المنتظر لن يكون مليئا بصراخ الطفل المولود بقدر امتلاء الدنيا بخبر أن مفهومنا عن الحياة قد تغير من “لهو ولعب وزينة وتفاخر بينكم في الأموال” إلى “وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين”.
الولادة يسبقها مخاض أليم وقبل المخاض لا بد من تجرع ألم الموت.. ألم ذاقه عمر بن الخطاب قبل أن يولد الفاروق عمر، ترى لو لم يمت عمر الذي كان يصخب ويبطش.. هل كان سيولد الفاروق عمر الذي جُعل “الحق على لسانه وقلبه”؟
قبل الحياة كان الموت هو المسيطر علينا “هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا” ثم كانت الولادة والحياة، ولولادتنا من جديد، لا بد أن نعرف ما معنى عدم الحياة، أن نتجرع إماتة ذواتنا عبر إماتة أناها النفسية التي دعت يوما ما فرعون وأشباهه للقول: “ما علمت لكم من إله غيري”، ودعت أبا جهل وشركاءه للادعاء “لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم”؛ وبعد الموت تبدأ حلقة جديدة من الحياة، حياة تبدأ بصرخة المولود يتردد صداها في الأجيال عبر التاريخ “أحد ..أحد.
الولادة المرتقبة تبدأ من معرفة حقيقة الولادة المنشودة، بأن لا تكون عشوائية، فالولادة ليست الهدف بقدر كونها وسيلة إلى حياة الجديدة التي مبدأها ومنتهاها “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين”.. ومتى بدأت الحياة الجديدة على هذا المبدأ سيكبر ذلك المولود الجديد في ظل قول الله تعالى”ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى”، فاليتم في حقيقته المؤلمة ليس في فقد الوالد والوالدة بقدر فقدان الفكرة المؤسسة.
عندما تولد من جديد ستكون حياتك قد اقتربت من معنى الحياة الخالدة، ذلك أن الحياة الدنيا هي “لعب ولهو وزينة”، أما الحياة المنشودة فهي الحياة الخالدة يوم تبدأها مع أول قطرة لبن تدخل جوفك قائلا: “إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين”.
وحين تحين ساعة ولادتك يحق لك أن تفرح فيها قائلا: “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون”.