أكد باحثون ومفكرون أهمية المسجد ودوره الريادي في نهضة الأمة الإسلامية وتقدمها بالمجالات كافة، نظراً لأدواره الشرعية والعلمية والقضائية والاجتماعية والاقتصادية، داعين إلى إحياء رسالة المسجد بعيداً عن الرتابة الوظيفية، وإعادة مركزية دوره في المجتمع، عبر تحويله إلى مجمع دعوي تربوي تعليمي تثقيفي.
جاء ذلك خلال الندوة التي عقدتها إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر، بعنوان “الحواضن الثقافية: المساجد أنموذجاً”،ضمن سلسلة مشروعها الثقافي “ندوة الأمة”، حيث شارك فيها كل من: الدكتور تركي بن عبيد المري أستاذ الفقه في جامعة قطر، والأستاذ الدكتور عبد السلام المجيدي أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة قطر، والشيخ الداعية عبد الله بن محمد النعمة، إمام وخطيب بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وفي هذا الإطار، قال سعادة الشيخ الدكتور أحمد بن محمد بن غانم آل ثاني مدير إدارة البحوث والدراسات الإسلامية بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، في كلمته الافتتاحية:” إن هذه الندوة هي الثالثة ضمن سلسلة ندوات الحواضن الثقافية، حيث إن المساجد هي قطب الرحى، وحجر الزاوية في الحضارة الإسلامية، ومهد الإسلام، ومدرسة العلماء والمفكرين عبر القرون”، مبيناً أن هذه الندوة تهدف إلى دراسة كيفية إعادة دور المسجد كحاضنة ثقافية في المجتمع والأمة.
واستهل الأستاذ الدكتور عبد السلام المجيدي أستاذ التفسير وعلوم القرآن في جامعة قطر، حديثه حول المسجد باعتباره مركز الأمن الاجتماعي والقلب النابض للمجتمع، لكونه مكان الصلة المباشرة بالله عز وجل، وفيه تتحقق السكينة الغامرة للنفس، ومما يدل على مكانة المسجد وعظم منزلته، أن الله تعالى هو الذي فضّل المساجد ورغَّب في بنائها وعمارتها حساً ومعنى، وجعل أصل وظائفها ذكره وإقام الصلاة له، وهي أهم أركان عبادته بعد الشهادتين اللتين هما أصل عبادته وذكره، مبيناً أن المسجد أعظم مركز لبناء الإنسان الصالح في المجتمعات، وأعظم أمكنة الأنشطة المجتمعية المختلفة.
وقال في كلمته خلال الندوة: “إن المسجد كان مكانا لإعلان السياسة العامة للدولة، فمن خلاله كان يتم توجيه العلاقات الدولية نحو المصالح العليا، فضلاً عن كونه مقراً لشورى أهل الحل والعقد، ولاستقبال الوفود والمفاوضات”، لافتاً إلى ضرورة ربط المساجد الكبرى بمقر إدارة الدولة، فضلاً عن أهمية بنائها على الصورة اللائقة المعظمة لها ضمن الضوابط الشرعية.
وأشار المجيدي إلى أن المسجد يعد المركز التعليمي الأساسي والجامعة العالمية لتخريج القادة والمصلحين، فضلاً عن كونه مكاناً للتعارف الأكبر بين كل فئات المجتمع، فهو دار للفتوى ومحكمة للقضاء، ورباط أساسي يأوي إليه المحتاجون، موضحاً أنه لتحقيق رسالة المسجد ينبغي الاهتمام بأركانه وأعمدته الرئيسية، والمتمثلة بالإمام والمؤذن والقائمين على خدمة المسجد، إلى جانب المصلين والمدرسين والمرشدين.
وأكد في كلمته خلال الندوة، على أهمية إدخال التحسينات والمرافق اللازمة في المساجد المركزية، وإنشاء مؤسسات إدارية ووقفية لكل مسجد، وتطوير تفاصيل المسجد ومساحته، وتوزيع الأدوار بين المساجد، إلى جانب ابتكار ما يحقق الأهداف العليا للمسجد، كاستحداث مقاعد ثابتة، أو متحركة، أو مركبات، أو سير متحرك في المساجد الكبرى، فضلاً عن إقامة المساجد وترميمها وصيانتها.
ودعا المجيدي إلى تفعيل دور المسجد بعيدًا عن الرتابة الوظيفية، خاصة أن تفعيل دور المساجد فريضة شرعية وضرورة وطنية في ظل المتغيرات العالمية، وأخطار موجات الإلحاد وتشريع الفاحشة في العالم، وفي مقابلها أخطار الغلو والتطرف، فضلاً عن الاعتناء بتنويع المساجد من حيث الدورة الإيمانية الضخمة التي يمنحها الله لنا في رمضان، فتحدد المساجد التي تعتزم ختم القرآن، مع الحرص على تسمية المساجد وفق ثقافة تعرف برموز الإسلام ومعانيه، وإيجاد أوقاف خاصة بالمساجد الكبيرة وسن قوانين منظمة لذلك.
وفي سياق ذي صلة، قال الدكتور تركي بن عبيد المري أستاذ الفقه في جامعة قطر:” إن للثقافة حواضن تؤثر في تشكيل الثقافة وتوجيهها، كالدين وتعاليمه، والمجتمع وقيمه وبيئته وهويته، والتاريخ ومكتسباته، والحاضر ومنجزاته، فإن الإنسان يتفاعل مع هذه العوامل كلها فينشأ عن هذا التفاعل أفكار وقيم وسلوكيات هي التي تشكل ما اصطلح على تسميته بالثقافة”، مبيناً أن لهذه الحواضن الأصلية حواضن تتفرع عنها، وتبث رسائلها عبر تثقيف الناس بالأفكار، وغرس القيم والسلوكيات التي توجه الأفراد وتؤثر في تفاعلهم مع غيرهم، ومنها حاضنة المسجد، وخير دليل على ذلك أن النبي- ﷺ- أول ما بدأ به بعد هجرته إلى المدينة المنورة هو بناء المسجد.
وأكد في كلمته خلال الندوة، على مكانة المسجد ومركزية دوره في المجتمع المسلم، حيث لم تقتصر وظيفته على أداء الصلوات وحسب، بل كان المسجد محضنا من محاضن التربية الإيمانية، ومصنعا من مصانع الرجولة الحقة، حيث من منارته ترتفع الدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح، وفي إيوانه تؤدى الشعائر والصلوات، ومن على منبره يُعَلَّم الإيمان والعمل الصالح، ومنه كان يدعى إلى الجهاد في سبيل الله، ، لافتاً إلى ما كان عليه المسجد من معهد لتلقي العلم، ومجلس قضاء تفصل فيه في الخصومات، ومجلس حكم تتخذ فيها المراسيم والقرارات، ومجلس شورى تعقد فيه المشاورات مع أهل الحل العقد، وكان كذلك مقرا لاستقبال الوفود وإجراء المفاوضات، فكان المسجد باختصار جامعا لمؤسسات الدولة ومرافقها.
وأشار المري إلى أن للمسجد رسالته الاجتماعية الملهمة في معانيها وتجلياتها المتفردة في تأثيرها، لم تأت بمثلها مراكز الأبحاث الاجتماعية ولا الدراسات العصرية، لأنها تذيب الفوارق وتعزز روح الإخاء والتعاون والتعاطف والتكاتف والتكافل، حيث يقف المصلون بين يدي الله تعالى في صفوف متراصة على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأعمارهم وظروفهم الاقتصادية، حيث يمتد تأثير هذه الرسالة إلى قيم التعارف والتآلف والتعاون على البر والتقوى والتكافل بين أفراد المجتمع.
وقال:” إن الخطوة الأولى في سبيل إحياء دور المسجد في حياة المجتمع المسلم تبدأ ببث الوعي بمركزية هذا الدور وأهميته في التكوين الثقافي والقيمي للمسلم، فإذا استشعر الناس خطورة هذا الدور وقدسيته انعكس ذلك على تصوراتهم وقناعاتهم”، مبيناً أنه علينا التفكير بطريقة تجعل من المسجد مركزاً يجذب مختلف شرائح المجتمع، وتحويل المسجد إلى مجمع دعوي تربوي تعليمي تثقيفي.
بدوره، قال الشيخ الداعية عبد الله بن محمد النعمة، إمام وخطيب بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية:” إن المساجد هي بيوت الله سبحانه وتعالى وأحب البقاع إليه وأشرف الأماكن على ظهر الأرض، أمر الله ببنائها وعمارتها والمحافظة عليها، حيث تعد العناية فيها من دلالات الإيمان بالله واليوم الآخر، وبياناً لصلاح العبد في عبادته وطاعته، ودلالة على صحة عقيدته.
وبين في كلمته خلال الندوة، أن المساجد قد خرّجت القادة والعلماء والساسة وغيرهم، ما يؤكد ارتباط الأمة في زمنها الأول بالمساجد وأثر ذلك على المجتمع بمختلف المجالات، لافتاً إلى أنه في المساجد تقوى رابطة الأخوّة الإسلامية، وتتصافح الأيادي وتتلاصق الأبدان، وتتآلف القلوب في الصلاة وتتطهر النفوس.
وأشار النعمة إلى الرسالة العظيمة للمسجد في كونه مكاناً لتأدية الصلاة وداراً للعلم النافع، ومركزاً يلتقي فيه المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة، مبيناً أن الاهتمام برسالة المسجد يكون بالاهتمام بعناصر المسجد الأساسية، وذلك من خلال الاهتمام بالمسجد ظاهراً وباطناً، والاهتمام بالقائمين عليه من أفراد وجماعات.
واستعرض في كلمته خلال الندوة، العديد من الأنشطة التي تسهم في إحياء رسالة المسجد وتعزيز دوره في المجتمع، منها حلقات تحفيظ القرآن الكريم، والدروس العلمية، وصندوق مخصص لأسئلة المصلين بحيث يتم الإجابة عنها بشكل مباشر أو غير مباشر، ووضع خطط لدورات علمية موسمية لجميع الشرائح، إلى جانب الأنشطة والمواعظ الإيمانية، والأنشطة الدعوية المختلفة.