بين الحين والآخر، يتجدد في مجتمعاتنا الخليجية نقاشٌ حيوي حول عطلة نهاية الأسبوع. هو نقاش صحي، ولكنه غالبًا ما يُدار من زوايا قاصرة، كل واحدة منها تنظر إلى القضية بعين واحدة، لا ترى الصورة الكاملة.
هناك من يتعامل مع الموضوع من زاوية دينية بحتة، وهذا منهج لا يكفي، لأن إجازة نهاية الأسبوع في الإسلام ليست فريضة شرعية بل هي نظام اجتماعي. وهناك طرف آخر يتعامل معها من زاوية اقتصادية ضيقة، تركز فقط على التوافق مع أسواق المال العالمية، وهي أيضًا زاوية أحادية الجانب. وطرف ثالث ينادي بضرورة الاندماج في المنظومة الدولية حتى لا نبدو في نشاز عنهم، وهي حجة هشة لا تصمد أمام قضايا الهوية الكبرى.
لكن هناك منهجية أخرى أكثر صلابة وعمقًا، وهي التي تدرك أن الموضوع ليس في مساحة الدين أو الاقتصاد أو السياسة، ولكنه في المساحة الأوسع والأشمل التي تحتضن كل هذا: مساحة “الثقافة“. فكما تعلمنا، إن أي تغيير كبير في توازن المجتمع وتحريك أسسه، ينبغي أن يُدرس بمنهجيات تناسب حجمه وتأثيره.
بغض النظر عن مكانته كنظام اجتماعي، فإن قوة “يوم الجمعة” الحقيقية تنبع من كونه مؤسسة ثقافية ودينية راسخة. إنه ليس مجرد يوم عطلة، بل هو “طقس اجتماعي” له نظامه الخاص وإيقاعه المميز. هو اليوم الذي نقدس فيه فرض الجمعة، ليس كعبء نؤديه على عجل، بل كحدث محوري يعيد ضبط بوصلتنا الروحية الأسبوعية، وهو أساس أصيل في ثقافتنا وثقافة آبائنا. هو اليوم الذي كانت تجتمع فيه الأسرة، لتقرأ سورة الكهف، فتُسكب السكينة على البيت، وهذا طقسٌ روحي واجتماعي لن يكون أبداً في يوم غيره.
ومن هذا المركز الروحي، تتفرع بقية طقوسه الاجتماعية: تهدأ فيه وتيرة الحياة، وتجتمع الأسرة الممتدة على مائدة الغداء. هو يوم “صلة الرحم“، حيث يزور الأبناء آباءهم وأمهاتهم، وتمتلئ “المجالس” بالحديث الدافئ. هو يوم نتفقد فيه الأحياء، بل وحتى الأموات في المقابر.
وهذا التماسك ليس مجرد شعور عاطفي، بل هو ظاهرة اجتماعية عميقة لها أسسها في العلم الإنساني. فلقد رأى عالم الاجتماع الفرنسي الملحد الشهير إميل دوركايم أن قوة أي مجتمع ومتانته تنبع من قدرته على إقامة “طقوس دورية” تجمع أفراده وتوحدهم. هذه الطقوس، حسب رؤيته، هي التي تجدد الروابط وتؤكد المعتقدات الجماعية، وتخلق شعورًا بالانتماء إلى “جماعة أخلاقية واحدة”. وما “ثقافة يوم الجمعة” في مجتمعاتنا، بكل تفاصيلها الروحية والاجتماعية، إلا تطبيق حي ومثالي لهذه النظرية. إنها الطقس الدوري الأسبوعي الذي يعيد نسج “العصبية المجتمعية” ويقويها.
الحجة الأبرز التي تُطرح لتغيير هذا النظام هي حجة اقتصادية: كسب يوم عمل إضافي مع الأسواق العالمية سيزيد من أرباحنا. هذا صحيح على الورق. ولكن الحكمة تقتضي أن نحسب أيضًا الخسارة. إن ما سنكسبه من أموال بوضع مجتمعنا متسقًا في إجازته مع المجتمعات الأخرى، لا يساوي معشار ما سنخسره من بعد ثقافي وقيمي في أسرتنا. خسارتنا ستكون في تفكك هذا الطقس الاجتماعي الأسبوعي، وفي تآكل الروابط التي كانت هذه الإجازة تغذيها وتحميها. وهذه خسارة لا يمكن لأي آلة حاسبة أن تقدر ثمنها، لأنها تمس أغلى ما نملك في مجتمعاتنا المحافظة: الأسرة.
وهنا نصل إلى جوهر القصة. مجتمعاتنا الخليجية، بفضل الله ثم بفضل تماسكها الأسري والثقافي، تشبه تلك البطة التي تبيض ذهبًا. “البطة” هي هذا التماسك الاجتماعي، هذا الإرث من القيم والأعراف الأسرية. إنها الأصل الذي لا يقدر بثمن، والذي ينتج لنا كل يوم “بيضة ذهبية” من الاستقرار، والأمان الاجتماعي، والتكافل.
والدعوة إلى تغيير إيقاع المجتمع بشكل جذري من أجل مكاسب اقتصادية آنية، تشبه تمامًا قصة ذلك الطماع الذي قرر أن يذبح بطته ليحصل على كل الذهب دفعة واحدة، فخسر البطة والذهب معًا. إن التضحية بالبنية الثقافية والاجتماعية طويلة الأمد من أجل أرباح قصيرة المدى ليست تنمية، بل هي تدمير استراتيجي لأهم أصولنا.
وفي نهاية المطاف، يجب أن ندرك أن النقاش حول توقيت الإجازة، على أهميته، يظل جزءًا من قضية أكبر. فالتحدي الحقيقي الذي يواجه ثقافتنا وتنميتنا ليس في “متى” نعطل، بل في “كيف” نقضي عطلتنا.
إن الأهمية الحقيقية تكمن في محتوى الإجازة وليس في أيامها. فسواء كانت الإجازة تبدأ الجمعة أو السبت، فإن لم تكن فضاءً لصلة الرحم، وتجديد الروابط الأسرية، وممارسة الراحة المنتجة التي تنمي الإنسان، وتعزيز للهوية والثقافة… فإنها ستكون مجرد وقت ضائع، وستكون خسارتنا الثقافية واقعة لا محالة. إن توريثنا أسرة متماسكة عميقة لأجيالنا… هو أغلى من كل أموال الأرض.