نسمع كثيرًا عن بكاء الإنسان لفراق شخص عزيز عليه، أو شعوره بالضيق، أو شعوره بالفرح والسعادة من أمر ما، لكن هل سمعت، عزيزي القارئ، عن بكاء السماء والأرض؟ ما حقيقته؟ وما كيفيته؟ وعلى مَن تبكيان؟… هذا هو ما أردتُ أن أتحدث عنه في هذه السطور القادمة.
حقيقة بكاء السماء والأرض
لما سُئِل الإمام علي: أتبكي السماء والأرض؟ قال: نعم، إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان: موضع في الأرض وموضع في السماء. أما موضعه في الأرض فموضعُ سجوده أو مُصلّاه، وأما موضعه في السماء فمصعد عمله. فكأن هناك صحبة بين المكان والإنسان المؤمن. وهذا دليل انسجام العبد المؤمن مع الكون من حوله؛ فالكون ساجد لله، مسبّح لله، طائع لله، يحب الطائعين ويكره العاصين. المكان طائع وهو عاصٍ، والمكان مُسبِّح وهو غافل. وبهذا نفهم قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ٱلسَّمَآءُ وَٱلأَرْضُ} (الدخان: 29).
وكيف تبكي السماء على هلاك عدو الله فرعون بعد أن بارز الحق سبحانه وادّعى أنه إله من دون الله؟ إذن: فهذه المخلوقات لها إحساس ولها بكاء، وتحزن لفقد الأحبة.
وعند ابن المبارك في الزهد والرقائق: “وما من عبد يقوم فيصلي، إلا تزخرفتْ (تزينتْ) له الأرض”. فكل مؤمن له أنوار إيمانية وبركات من قرباته وطاعاته تدرّ عليه من العزيز الغفار، وعلى بقعته ومكان عبادته، فإذا فقدت السماوات والأرض أنوار تلك الطاعات الصاعدة إلى الله تعالى، وافتقدت تلك الرحمات والبركات النازلة بسبب عباداته وطاعاته: بكت السماء وبكت الأرض أسًى وحزنًا؛ لأن السماوات والأرض يعتريهما التأثر مما يعمل العباد على وجه الأرض، فيعتريهما الغضب والتغيظ من الكفر والفسوق والعصيان، ويعتريهما الفرح والسرور والاستبشار بما يعمل في الأرض من الطاعات والعبادات والقربات.
أقوال العلماء في بكاء السماء والأرض
وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أقوال:
1– القول الأول: أنه كالمعروف من بكاء الحيوان، ويشبه أن يكون قول مجاهد.
2– القول الثاني: أنه حمرة أطرافها، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويزيد وعطاء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء – رضي الله عنه – قال: بكاء السماء حمرة أطرافها. وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال: لما قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما احمرَّ له آفاق السماء أربعة أشهر. قال يزيد: واحمرارها بكاؤها.
وقال محمد بن سيرين: أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قُتل الحسين بن علي رضي الله عنهما.
وقال محمد بن علي الترمذي: البكاء إدرار الشيء، فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت؛ لأن المؤمن نور ومعه نور الله، فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك، فإن فقدت نور المؤمن اغبرَّتْ فدرت باغبرارها؛ لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن، فإذا قُبض المؤمن منها درت بغبرتها. (تفسير القرطبي).
3– القول الثالث: أنها أمارة تظهر منها تدل على حزن وأسف.
بأي لغة تتحدث السماء والأرض؟
وهناك سؤال يطرح نفسه: بأي لغة تتكلم السماء والأرض؟ وكيف نفهم كلامها؟
والجواب: يخاطبها ويفهمها خالقها سبحانه، فهو الذي يعلم لغتها؛ لذلك يعطينا الحق سبحانه أمثلة لكلام هذه المخلوقات وتسبيحها لله تعالى، فقال:
{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 79).
وقال: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44).
وفي قصة سيدنا سليمان عليه السلام تكلَّم الهدهد كلامًا دلَّ على علمه وفَهْمه لقضية التوحيد كأحسن ما يكون الفهم، وتكلَّمت نملة ووجدنا عندها مقاييس الحق والعدالة. فكل الكائنات تُسبِّح على إطلاقها ودون استثناء.
وقد ورد في الحديث الصحيح عن سيدنا رسول الله ﷺ ما يُؤيد هذه المسألة، فقال عن أُحُد: “أُحُد جبل يُحبنا ونُحبه”. وثبت أن الجبل اهتزَّ به هو وصحابته، فقال له: “اثبُتْ أُحُد، فإنما عليك نبيٌّ وصِدِّيق وشهيدان”.
وقال عليه الصلاة والسلام: “والله إنِّي لأعرف حجرًا كان يُسلِّم عليَّ بمكة قبل البعثة”. (رواه مسلم).
بكاء الكون بين الدين والعلم
ومن الأشياء الغريبة والملفتة للانتباه والتي يصرح بها العلماء اليوم ما يقوله البروفيسور ويتل في خبر علمي:
“the cry from the birth of the cosmos can be heard”
“يمكننا سماع البكاء الناتج عن ولادة الكون”
هذه التصريحات جاءت في مقالة بعنوان: “سماع بكاء ولادة الكون” على أخبار BBC في خبر منشور بتاريخ 23-6-2004. وهذا الخبر العلمي يعطي إمكانية حدوث الصوت والبكاء وغير ذلك مما لم نكن نفهمه من قبل. وهذا يؤكد أن كل كلمة في القرآن هي الحق، بل لماذا لا يكون هذا الصوت الكوني امتثالًا لأمر الله تعالى؟ فجميع العلماء يؤكدون أن توسع الكون وتمدد الغاز فيه أحدث هذه الأصوات ونتج عن هذا التمدد النجوم التي نراها اليوم.
على مَن تبكي السماء والأرض؟
قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} (الدخان: 29).
نعم… قالها القرآن الكريم. وماذا تركوا وراء ظهورهم من أعمال صالحة حتى تبكي عليهم السماء والأرض؟ وماذا قدموا لدينهم ووطنهم بل للبشرية كلها من خير وحق وحرية وعدالة حتى تبكي عليهم السماء والأرض؟ إنهم لا يستحقون إلا أن يكونوا في سجل النسيان. لا يستحقون غير التجاهل وعدم الاهتمام؛ لأنه من لم تسرّ حياته، لم تغمّ مماته. فلا الأرض تذكرهم بعمل صالح، ولا صعد للسماء منهم عمل صالح أيضًا، فلِمَ الحزن والبكاء عليهم؟
أتى ابن عباس رجل، فقال: يا أبا عباس: هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال: نعم. إنه ليس أحد من الخلائق إلا له باب في السماء منه ينزل رزقه، وفيه يصعد عمله، فإذا مات المؤمن فأُغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه، بكى عليه. وإذا فقده مُصلاّه من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله فيها، بكت عليه. وإن قوم فرعون لم يكن لهم في الأرض آثار صالحة، ولم يكن يصعد إلى السماء منهم خير، قال: فلم تبك عليهم السماء والأرض. [تفسير الطبري]
ويقول تعالى في سورة مريم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (مريم: 90).
تثبت هذه الآية أن للأرض غضبًا وتغيظًا شديدًا على من نسب لله تعالى الولد.
كما أثبت سبحانه للأرض أداء الشهادة والتحدث يوم القيامة بما عُمل على ظهرها في الدنيا من خير وشر، ومن طاعة ومعصية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (الزلزلة: 4).
وقد قرأ الرسول الكريم ﷺ هذه الآية وقال: “أتدرون ما أخبارها؟” قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: “فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أَمَةٍ بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا، فهذه أخبارها”. (رواه الترمذي في الجامع الصحيح).
خاتمة
إنها والله كرامة عظيمة ومنزلة رفيعة أن يحظى بها الإنسان، ولكنها ليست لكل إنسان. إنما هي للمؤمن الصالح الذي يؤدي حق ربه عليه ويسعى في عمارة الأرض. قال مجاهد: “وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل؟”
أما من كان على نهج آل فرعون فلا يستحق أن تبكي عليه السماء والأرض؛ إذ كيف تبكيان على إنسان يبغضه ربه، وتبغضه السماوات والأرض ومن فيهن؟ بل حق لهما أن يسعدا بموته؛ لأن الفاجر إذا مات ارتاح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، فأنّى لأحد أو لشيء أن يبكي عليه؟