النفس البشرية تميل في غالب الأحوال نحو من يغدق عليها عبارات الإطراء والمديح وإظهار بدائع الأعمال والأقوال، أكثر من الانتقادات وإظهار السلبيات، وإن كانت نقداً بنّاء هادفاً فيه الكثير من الصواب، رغبة في الإصلاح والتقويم. فهكذا النفس البشرية بشكل عام، إلا ما رحم ربي وقليل تلكم النفوس التي تتقبل النقد الهادف البنّاء، دون امتعاض أو انزعاج.
إن فهمنا لمعنى النقد بشكل عميق، وسبب قيام الناقد بعمله ذاك أو نقده لأعمالنا أو توجهاتنا أو سلوكياتنا أو غير ذلك، سبب رئيسي لفتح القلوب، وبالتالي اتساع الصدر لما سيأتي من انتقادات، رغبة في الوصول إلى نتائج هادفة بنّاءة تعين المنتَـقد على إصلاح نفسه وتقويم أعماله وتوجهاته وسلوكياته وغيرها.
هذا أمر لا تتقبله غالباً تلكم النفوس الصدأة والصدور الضيقة، أو أولو الألباب الفارغة، بل تلكم النفوس الراقية الموقنة تمام اليقين بأنها نفوس بشرية في المقام الأول، وبالتالي مثلما تصيب، فهي كذلك تخطئ. نحن لسنا ملائكة مفطورة على أداء ما هو مطلوب منها دون ذرة نقصان، الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. نحن بشر خلقنا الله لنتعرض لألوان شتى من الابتلاءات والاختبارات في دنيا الاختبارات والامتحانات، والكياسة أن يتعلم المرء من أخطائه يستفيد منها، وينصت لمن يقدم النصح أو النقد الهادف، وإن كان مراً صعباً على النفس.
رحم الله من أهدى إليّ عيوبي، كما كان يقول الفاروق عمر – رضي الله عنه – حيث كان يسأل سلمان الفارسي عن عيوبه، حتى إذا قدم عليه مرة، قال: ما الذي بلغك عني مما تكرهه؟
قال: أعفني يا أمير المؤمنين فألح عليه.
فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حُلتين، حُلة بالنهار وحُلة بالليل !
قال: وهل بلغك غير هذا ؟ قال:لا
قال: أما هذان فقد كفيتهما.
الشاهد من القصة أن عمر وهو من هو يومئذ، لم يتحفظ على ما كان يراه سلمان في فعل أمير المؤمنين، وأنه جزء من الترف والبذخ غير المبرر وهو رئيس للدولة، بل تقبل النقد بصدر رحب، وعالج ما كان يراه سلمان عيباً، فأثبت الفاروق أنه نعم الرئيس، وأثبت سلمان أنه نعم المرؤوس. وهذا هو المطلوب من الناقد والمنتَقد. الأول يبتغي من نقده وجه الله، وأن يصلح بنقده. أما الثاني مطلوب منه تقبل النقد الهادف البنّاء، وشكر ناقده وتعظيم الأجر له إن كان بالمستطاع، وأقل ذلك الدعاء له، كما جاء عن الفاروق رضي الله عنه وأرضاه.
النقد لمجرد النقد
خلاصة ما أروم الوصول إليه في هذه العجالة ألا نتبع شهوة النقد لمجرد النقد، وتفريغ ما بالنفس من مشاعر تدفع المرء دفعاً للتشمت من فلان أو للتشفي من علان، أو غيرها من أمراض النفوس التي يرى المبتلون بها أن بالنقد، لاسيما الهادم غير الهادف، هو علاج أمراض نفوسهم !
ليحاول كل مبتلى بتلك الأمراض ضبط نفسه من الاندفاع نحو نقد أفعال الآخرين قدر المستطاع، ما لم تكن هناك ضرورة وحاجة ماسة للنقد أو النصح والتوجيه. إن صادف أحدنا ورأى خطأً أو هفوة أو زلة من إنسان ما، ولم تكن هناك ضرورة إلى توجيه فوري مثلاً، فالتريث بعض الوقت هو المستحسن، بل الأفضل ها هنا ترك الأمر للمخطئ أن يتنبه بنفسه إلى خطئه كي يعمل على إزالته وتصحيحه من تلقاء نفسه.
لا تحاول كذلك أن تسرع كالبرق في توجيه اللوم والتوبيخ أو حتى نقد العمل، حتى وإن كان الشخص غير مستساغ لك أو تنتظر منه زلة أو هفوة. فهذا عمل أثره سلبي على النفس البشرية، ولو كانت نفس من لا تستسيغه، إذ الأصل أن تعمل أنت بأخلاقك وليس بأخلاقه. أما إن طال الوقت ولم يتنبه الشخص للخطأ، حينها يمكنك البدء في عملية النقد.
احذر مس الذات
من النصائح التي لها وجاهتها في مثل هذه الموضوعات، ضرورة الابتعاد عن مس الذات، فليس من الأخلاق والرقي لوم الشخص ونعته بصفات غير محبذة أو رفع الصوت عليه، أو خلط أخطاء قديمة أو صفات وطباع غير محبذة فيه مع الخطأ الذي وقع منه. الانتقاد يجب أن يكون مركزاً على الخطأ وليس ذات الشخص، أو استحضار طبائع أو سلوكيات قديمة فيه، لأن الخلط ها هنا غير مطلوب بل لا يجب أن يكون له وجود. فلكل مقام مقال.
حاول كنقطة أخرى أخيرة، ألا يكون نقدك للشخص أمام الآخرين، وإنما على انفراد أولاً، حتى إذا ما انفردت به، أثنيت عليه بعض الشيء ثم تعرج من بعد ذلك نحو الخطأ المرتكب وتبيّن له الصواب، محاولاً أن تنهي الأمر بإعادة الثقة إليه بكلمات إيجابية تطيب بها خاطره، ومؤكداً له أن الأمر قد يقع فيه أي أحد، وأن المطلوب منه منع تكرار الخطأ قدر المستطاع، وإنهاء اللقاء على ذلك..
لا شك أن تلكم الآلية ستؤثر بالنفس، وتحفظ الود والإخاء والمودة بين الناقد والمنتَـقد، وتلكم هي الغاية الأساسية من عمليات النقد البنّاءة الهادفة، وإن كانت قليلة هي الآن، بل قليل هم أولئك الناقدون الساعون للإصلاح والتقويم، وهذه معضلة تربوية أخرى، ربما نجد مستقبلاً بعض المساحات للحديث عنها بإذن الله.