أعد الله تعالى لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر يناديهم مناد إن لكم أن تصحو فلا تمرضوا أبدا ولكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ونودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون في الجنة نعيم مقيم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وفيها أشكال من النعيم لا حدود لها {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 8 – 16].
{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 70 – 76] وأعلى نعيم الجنة النظر إلى وجه الله الكريم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]
وقد اخترت الحديث عن بيوت الجنة لانشغال الناس بأمر تدبير المأوى المناسب لهم ولأسرهم، إذ هو أحد الحاجات الأساسية للبشر وأحد عوامل استقرار الأسرة، وتذكرت أن رجلا قال لصديقه بارك لي الحمد لله أتممت بناء بيتي بعد تعب وصبر، نظر الصديق المخلص لصديقه ودعا له بالبركة، ثم قال هذا البيت الذي ستسكن فيه في الدنيا فأين البيت الذي ستسكن فيه في الجنة؟
إنه سؤال مهم حقا إن البعض يقضي جزءا كبيرا من حياته لبناء بيت قد يسكن فيه أو لا، وقد يعيش فيه سعيدا أو لا ،ولو أننا شغلنا أنفسنا ببيوت الجنة إلى جانب انشغالنا ببيوت الدنيا لرجونا أن نكون ممن صدق فيهم (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا).
إن لبيوت الدنيا ثمنا ولبيوت الجنة أثمان كذلك، فمن هذه الأثمان الصبر الجميل ومن أهل الصبر الذين يستحقون بيتا في الجنة لصبرهم ما جاء في حديث رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟ فَيَقُولُونَ: حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ، فَيَقُولُ: ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ ” [سنن الترمذي] ان فقد الولد مصيبة تحتاج إلى صبر جميل يذكّر المسلم نفسه بقول الله تعالى {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156].
فكلنا إلى الله راجع لكن فلانا يسبق فلانا، وسيتلوهما فلان، وإن فقد الولد مصيبة لكن المؤمن يقاوم التسخط على قدر الله تعالى بما أعده الله عز وجل للصابرين الراضين {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 157]، يرحمهم الله فيخفف مصابهم ويجبر كسرهم ويعينهم على تجاوز هذه الأزمة، وبعد استقبال هذا القدر الصعب على النفس بالرضا والحمد تأتي البشارة الإلهية: “ابنو لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد”، لما كان فقد الولد مصيبة كبيرة واستقبلها هذا العبد الذي صدق إيمانه بالحمد استحق أن يحمد الله تعالى هذه الروح الصابرة حتى المكان الذي ستسكن فيه من نعيم الجنة محمود عند الله تعالى.
وللنساء نصيب من بيوت الجنة
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } [التحريم: 11] اختارت الجار قبل الدار، وهو درس للمؤمنين ينتفعون به في حياتهم، ولا زالت امرأة فرعون تقدم لنا دروسا في فهم المساومات على الدين والتمسك به، كانت هذه المرأة تسكن القصور فلما آمنت حرمت منها، لعلها تذكرت ما كانت فيه من نعمة وما تقاسيه في لحظات العذاب، ولعلها تذكرت الأهرامات التي أعدت لدفن الملوك ونسائهم وكيف ستحرم من تخليد ذكراها حين تموت على غير دين الملك، طلبت من الله تعالى ما هو خير من القصور التعيسة التي لا يذكر فيها اسم الله فتضيق على أصحابها مهما كانت واسعة، وخلد الله تعالى ذكرها في كلمات تتلى إلى يوم الدين
ولأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها نصيبها من بيوت الجنة قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أُمِرْتُ أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، لَا صَخَبَ فِيهِ، وَلا نَصَبَ ” [مسند أحمد]، بيت خديجة رضي الله عنها في الجنة عبارة عن لؤلؤة مجوفة واسعة كالقصر الكبير، وهذا زيادة عما لها عند الله تعالى من سائر ألوان النعيم الآخر، لقد سبقت الجميع إلى الاسلام ولم تكتف بالإسلام بل آزرت رسول الله ﷺ بنفسها ومالها وعاطفتها، ووقفت إلى جواره ﷺ في كل الأزمات التي لاحقته، وهيئت له البيئة الهادئة داخل البيت فلما لم تزعجه ولم تخالفه جزاها الله تعالى ببيت هادئ لا إزعاج فيه.
تعهد نبوي كريم لأصحاب الأخلاق العالية
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» [سنن أبي داود] يضمن النبي ﷺ بيتا في ضواحي الجنة وأطرافها لمن ترك المراء، والمراء أحد آفات الإنسان القلبية التي تجعله ينتقص من كلام الناس، ويعارضهم لمجرد المعارضة يريد أن يظهر خطأ كلامهم، فلو كان من يقوم بالمراء على حق وتركه فجزاء ذلك بيت في ضواحي الجنة، وترك المراء للحفاظ على سلامة صدر من تحاوره وإبقاء لحبال المودة.
ويتعهد النبي ﷺ ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب حتى في المزاح وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه وكل هذه الأمور مرجعها إلى القلوب السليمة.
ومما ورد في جامع الترمذي لبيان غرف الجنة، أن النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ فِي الجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: لِمَنْ أَطَابَ الكَلاَمَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ
أول المستحقين لغرف الجنة في هذا الحديث هم من أطابوا الكلام، والله تعالى طيب والمسلم طيب لذا يختار من الكلام أطيبه، فهو الذي يصعد إلى الله تعالى ويجتنب ما خبث من فحش ورفث وفسوق وكلام بذيء وكلام لا يراعي فيه حق إخوانه وإكرامهم، وهذا أحد مفردات التلوث السمعي الذي يؤذي الأذن والقلب ويفسد ما بين الناس من علاقات، والمسلم دائما يختار أطيب الكلمات فاختيار الرجل قطعة من دينه وقطعة من عقله وكلما كانت الفاظه وعباراته شريفة كلما كان ذلك دليلا على إيمانه لإن اللسان يغرف من القلب.
وهو إلى جوار اختياره لألفاظه يحسن إلى الناس بما استطاع، فيقدم لهم ما تيسر من الطعام اتقاء للنار واستجلابا لرضوان الله تعالى واستدامة لمحبتهم ووصلا لما انقطع من علاقات وشكرا لله تعالى على نعمه.
وهذا المسلم كما يهذب نفسه بإطعام الطعام دفعا للشح، يهذبها بالصيام الذي يعلم العبد الإخلاص والتقوى ويسلك به سبل الترقي في سلم الكمال، ولا يزال يسير في طريق الإخلاص حتى يصلي بالليل والناس نيام لا يراه أحد، لكن صلاة الليل تترك أثرها على القلب والوجه والبصيرة والبدن والروح عموما لأهل الغرف عند ربهم مقام كريم قَالَ النبي ﷺ : «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَيُونَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَيُونَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوِ الْمَغْرِبِ، لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الأَنْبِيَاءِ لاَ يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ» [صحيح البخاري]
لأهل الغرف في الجنة منازل عالية حتى إن سكان الجنة يتطلعون إليهم وتبلغ هذه المنازل من العلو والارتفاع حتى أن المسافة بين أهل الجنة وهذه الغرف كالمسافة التي بين أهل الأرض والكوكب البعيد جدا، توقع الصحابة رضوان الله عليهم أن الذين يسكنون في الغرف العالية المكان والمقام هم الأنبياء وحدهم، لكن النبي ﷺ بين أن الله تعالى يتفضل على من آمن بالله تعالى وصدق بما أخبر به أنبياؤه سبحانه حق التصديق، فانطلق في أقواله وأعماله من تصديقه بما وعد الله تعالى في كتابه وعلى لسان نبيه من نصر الحق إن تمسك أهله به، وساروا في صراط الله المستقيم مهما تكالبت عليهم أعداؤهم، وكان منهم الصديق الذي أخرج جيش أسامة رغم وفاة النبي ﷺ وارتداد كثير من العرب وتربص الأعداء بالمدينة عاصمة الإسلام، وكان هذا التصميم من الصديق رضي الله عنه طاعة لرسول الله ﷺ فكان الخير كل الخير في تصديق النبي ﷺ وطاعته؛ إذ خاف من كان يفكر في الردة وتيقن الأعداء أن قوة المسلمين كافية لصد كل هجوم فلا يعقل أن يخرج الجيش ويترك المدينة دون حماية.