من أسباب الوقاية التي فرضتها جائحة كورونا على الخلق: ترك مسافة بينيَّة حتى يتجنب الآدمي من أخيه النفَس الذي يخرج منه فضلًا عن الرذاذ، هذا حسبما قرر أهل الاختصاص، وذلك خشية انتقال العدوى، وقد منعت الاجتماعات على أي شكل من الأشكال مدة، ومنها اجتماعات الصلوات الخمس والجمع، ثم أذن للناس في ذلك بعد اليقين من بعض أسباب الوقاية والطمأنينة إلى بعض أنواع العلاج، على أن يلزموا ببعض الإجراءات الوقائية، ومنها: الإجراء المشار إليه، ومن ثم لما أقيمت الجماعات في المساجد صار المصلون يتركون مسافات بينهم يتباعدون بها عن بعضهم البعض مترًا أو زيادة، وهنا كثرت أسئلة السائلين: هل تصح الصلاة على هذه الحال؟ وهل يقبلها الله منا، وكيف تكون جماعة ونحن متفرقون متشرذمون، وأدلى في المسألة كلُّ سائل برأيه ولم يكتف بالسؤال، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى..
وفي هذه السطور نتعرض لبيان حكم هذه المسألة بشيء من التسهيل والتقريب، وبالله التوفيق.
الأصل في أفراد الصف أثناء أداء الصلوات أن يكونوا متلاصقين فقد أمر الشارع برص الصفوف وسد الفرج، كما قال النبي ﷺ: “سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة”، وقال ﷺ وقد خرج على أصحابه يومًا: ” ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول ويتراصون في الصف”، وقد جاء بيان تلك الكيفية التي ترص بها الصفوف وتسد الفرج في حديث: “سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل، فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحذف” – يعني أولاد الضأن الصغار.
فإذا كان هذا هو الأصل في موقف المصلين في الصف فما حكمه؟ وما حكم تركه؟ وهل يجوز تركه لأجل هذه الظروف التي نحياها على ما وصفنا، بحيث يصح أن نقول: خشية العدوى بهذا الفيروس ضرورة أو حاجة تجيز التباعد؟!
وجواب هذه الأسئلة على النحو التالي: إن حكم التراص وسد الخلل: الندب، فهي سنة، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، نعم هو مأمور به ومرغَّبٌ فيه شرعًا ترغيبًا كبيرًا، كما قرأنا في الأحاديث السابقة، ولكن هذا الأمر على الاستحباب، وليس على الوجوب عند عامة العلماء من أصحاب المذاهب الأربعة المتبوعة وغيرها؛ قال العراقي في طرح التثريب: (أقيموا الصف في الصلاة) هذا الأمر للاستحباب، بدليل قوله في تعليله: «فإن إقامة الصف من حسن الصلاة». قال ابن بطال: هذا يدل على أن إقامة الصفوف سنة؛ لأنه لو كان فرضا لم يجعله من حسن الصلاة؛ لأن حسن الشيء زيادة على تمامه، وذلك زيادة على الوجوب، وهذا مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو قول الأئمة الأربعة، وذهب ابن حزم الظاهري إلى وجوبه([1])ـ
ولأجل التأكيد الوارد في الشرع على هذه السنة والحث الشديد على العمل بها.. صار تركها خلاف الأولى.. ومن ثم يكره تركها، وهذا أيضًا في ظل الظروف الطبيعية الأصلية، وأما مع احتمال المرض ومظنة العدوى فلا ريب أن الكراهة ترفع بأدنى حاجة، فضلًا عن ضرورة، ومن ثم فالصلاة على الوصف المذكور جائزة دون كراهة.
ويؤيد ذلك أحكام السادة الفقهاء في المذاهب الأربعة، ونوردها فيما يلي:
ففي المذهب الحنفي إن كان الإمام والمأموم في المسجد، وكان المأموم خلف الإمام أو بحذائه، يصح اقتداؤه، إن كان لا يشتبه عليه حال الإمام، وقالوا: ولو كان المأموم في أقصى المسجد والإمام في المحراب، اتصلت الصفوف أم لا، ولو كان فوق سطح المسجد، ولو وقف على سطح المسجد واقتدى بالإمام صح اقتداؤه، لأن سطح المسجد تبع للمسجد ، إذا كان لا يشتبه عليه حال إمامه، فإن كان يشتبه لا يجوز، وكذلك لو كان على سطح بجنب المسجد، متصل به، ليس بينهما طريق، فاقتدى به – صح اقتداؤه، وإن صلى في المئذنة مقتدياً بإمام في المسجد تجوز صلاته، وكذا فناء المسجد، ونصوا على أن كراهة المنفرد خلف الصف إلا من ضرورة أو عذر، ولا يفوت مع الكراهة فضل الجماعة عندهم([2]).
قال السَّمَرْقندي” ثم الصلاة خلف الصفوف منفردا إنما يكره إذا وجد فرجة في الصف فأما إذا لم يجد لا يكره (لأن حال العذر مستثناة) ألا ترى أن المرأة يجب عليها أن تصلي منفردة خلف الصفوف لأن محاذاتها للرجال مفسدة لصلاتهم”([3]).
فحكم المسألة التي معنا على المذهب الحنفي كما هو ظاهر من نصوصهم التي أوردناها: الجواز مع الكراهة في حالة الاختيار، ويصرح بهذا الطحطاوي في الحاشية فيقول: “إن صلى خلف الصف منفردًا مختارًا من غير ضرورة يجوز وتكره”([4]).
ومفهوم هذا أنه جائز بلا كراهة في حالة الحاجة والاضطرار، كما سبق أن قدمناه.
وكذلك المذهب المالكي يكره صلاة المنفرد خلف الصف، ويكره تقطيع الصفوف ويكره تقدم المأموم على موضع إمامه، مع صحة الصلاة في كل ما سبق ولا يطلب منه الإعادة، وذكروا أن الكراهة تفوت فضيلة الصف لا الجماعة إلا لعذر، فمع العذر لا كراهة([5]).
وهذا واضح فيه اعتبار العذر، ومعلوم أن كورونا عذر بلا أدنى ريب، فتجوز الصلاة على هذه الحالة ولا توجد فيها كراهة قال الزرقاني: “(و) جاز (صلاة منفرد خلف صف) إن عسر عليه الوقوف فيه وإلا كره مع حصول فضل الجماعة وفوات فضيلة الصف في المكروه لا في الجائز فتحصل لنيته الدخول فيه لولا تعسره”([6]).
ولم يبعد المذهب الشافعي في المسألة موضع البحث عن الحكم المذكور ذاته، فعندهم أن الإمام والمأموم إن كانا في مسجد واحد، فيصح الاقتداء سواء قربت المسافة بينهما أم بعدت، وسواء اتحد البناء أم اختلف، كصحن المسجد وسطحه وساحته والمنارة التي هي من المسجد، فتصح الصلاة في كل هذه الصور، إن كانت الأبنية متنافذة أبوابها بينهما، ويعتبر في صحة صلاة المأموم علمه بصلاة الإمام، كأن يشاهده أو يسمع تكبيره، أو يسمع مبلغًا، أو يرى بعض صفًّا من المقتدين به أو واحدًا منهم وإن لم يكن في صف، وألا يتقدم عليه سواء كان أعلى منه أو أسفل؛ لأن المسجد كله كالجماعة الواحدة([7])، وعندهم كذلك: تكره الصفوف المتقطعة ويكره الانفراد خلف الصف من غير عذر قال الرملي: “(بل يدخل الصف إن وجد سعة) بفتح السين فيه بأن كان لو دخل فيه وسعه وإن عدمت فرجة ولو وجدها وبينه وبينها صفوف كثيرة خرق جميعها ليدخل تلك الفرجة لأنهم مقصرون بتركها…..ثم قال : فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة كما ورد في الحديث، بخلاف ترك التخطي فإن الإمام يسن له عدم إحرامه حتى يسوي بين صفوفهم، (نعم إن كان تأخرهم عن سد الفرجة لعذر كوقت الحر بالمسجد الحرام لم يكره لعدم التقصير)” ([8]).
فمثل للعذر الذي يزيل الكراهة بوقت الحر، وأين هذا من جائحة كورونا وخطرها.
وفيالمذهب الحنبليكذلك: لو وقف المصلون خلف الإمام أو عن يمينه مع وجود فرجة ولو قدر ثلاث رجال فأكثر.. لا تبطل صلاتهم([9])، قال الرحيباني في مطالب أولي النهى، في شرح غاية المنتهى: (ولا تبطل) الصلاة (بقطع صف مطلقا)، أي: سواء كان وراء الإمام أو عن يمينه (إلا) أن يكون قطع الصف (عن يساره)، أي: الإمام (إذا بعد) المنقطع (بقدر مقام ثلاثة رجال)؛ فتبطل صلاته. قاله ابن حامد، وجزم به في الرعاية الكبرى (ويتجه: أن المراد) ببطلان صلاة صف انقطع عن يسار الإمام بقدر مقام ثلاثة رجال (ما لم تنو)، أي: ما لم تنو الطائفة المنقطعة (مفارقة) الإمام، فإن نوت مفارقته؛ صحت، أو اتصل الصف. أو أمكن انتقالها إلى غيره من غير عمل كثير؛ صحت، وهذا متجه. (و) يتجه أيضا: (أنه من بعد عن الصف) مع محاذاته له، وكان بعده عنه (قدر ذلك)، أي: مقام ثلاثة رجال (ففذ)، أي: فرد لا تصح صلاته. وهذا ليس بوجيه، إذ قد تقدم أنه لا بأس بقطع الصف خلف الإمام، وعن يمينه، وهو يشمل الواحد والجماعة ([10]).
وهذه هي الصفة المذكورة في مسألتنا هنا فالصلاة بها عندهم جائزة.
فتلخص مما سبق أن حكم هذه المسألة الاستحباب، فغاية ما يقال في تركها: جائز مع الكراهة، والصلاة مع تباعد المصلين في الصف صحيحة، ولو لم تكن هناك حاجة للتباعد، ثم إذا كان هناك عذر فتزول الكراهة، وحتى على القول بوجوب تسوية الصفوف والتراص –وقد علمت أنه خلاف قول المذاهب الأربعة-، فإن اتقاء العدوى والاحتراز منها من الحاجات المعتبرة التي ينبغي أن يقال بإسقاط وجوب التراص في الصف عند من يقول به؛ لأن أحكام هذه الجائحة أحكام ضرورة، يتعذر معها تحقيق الأصل وهو سد الفرج وتلاصق أفراد الصف، ولا ريب أن هذه المسألة بعين الشرع الكريم معتبرة، فإذا كان القيام والقراءة وإتمام الركوع والسجود والطهارة بالماء وغير ذلك يسقط بالعجز.. فكذلك الاصطفاف.
([1]) طرح التثريب في شرح التقريب (2/ 325).
([2]) انظر: تبيين الحقائق، للزيلعي: (1/136), حاشية الطحطاوي (ص: 206،207)، وبدائع الصنائع (1/ 145)، وغيرهما.
([3]) تحفة الفقهاء (1/ 145).
([4]) حاشية الطحطاوي (1/ 361).
([5]) انظر: التنبيه على مبادئ التوجيه (1/507)، الفواكه الدواني (1/527)، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/ 333).
([6]) شرح الزرقاني على مختصر خليل (2/ 30).
([7]) انظر: المجموع (4/301)، المنهاج القويم (ص: 164)، نهاية المحتاج (2/ 199).
([8]) انظر: نهاية المحتاج (2/ 196).
([9]) انظر: الإنصاف (2/30)، كشاف القناع (1/328)، الإنصاف (4/ 424).
([10]) مطالب أولي النهى (1/ 695).