و مما ساهم في تبديد العقل المسلم –أيضاً-

– الاختراق الثقافي والفكري الذي أصاب العقل المسلم في مفاهيمه وتصوراته الأساسية حيث استبدل الأصيل في المفاهيم والتصورات بالبديل الوافد، ونقلت إليه صراعات ذلك الوافد وثنائياته وتناقضاته وأضداده.

– فقدان المناخ الفكري والثقافي للعمل العقلي، ومن ثم تراجع العمل الذهني للمفكرين والمثقفين وتراجع دورهم في صياغة العقل المسلم بما يتوافق مع أصوله ومستجداته، ففرِّغ العقل لصالح عمليا ت الاستهلاك الفسيولوجي، والبحث عن طرق لسد الاحتياجات الطبيعية والغرائز. وهو ما ترتب عليه فقدان قيمة ” عالم الأفكار” لصالح عالم الأشياء والتشيؤ.

– غياب العقل عن قانون ” السنن ” واستبداله بالعشوائية أحياناً و العبثية أحياناً أخرى كمنهج للحياة. والسنن هي القوانين الثابتة التي جعلها الله للحياة والإنسان والكون، فلا عشوائية ولا عبثية في الخلق والكون :

[وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ] {الأنبياء:16}

[سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا] {الفتح:23}

[إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا] {الكهف:84}

[فَأَتْبَعَ سَبَبًا] {الكهف:85}

[ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا] {الكهف:89}

[ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا] {الكهف:92}

   هذه السنن لا تحابي أحدا ولا تميز بين مؤمن وكافر [كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا] {الإسراء:20} .

إن حالة الانفصال / العزلة / والجهل بهذه المصادر، كانت بالأساس لانعزال المفكرين والمثقفين  عن هذه المصادر

ومما ساهم في تبديد العقل -أيضاً-

– عدم امتلاك العقل المسلم القدرة والرغبة لإعادة اكتشاف منهاجية التعامل مع أصوله ومستجداته (أي: غياب الاجتهاد) ومما ترتب على ذلك:

فقد الضوابط المعرفية والمنهجيةالناجزة التي تجعله قادرا على “التنزيل” –تنزيل قيم الوحي على الواقع.

فقد أدوات التشخيص الفاعلة لأزمته الحضارية؛ مما ألجأه إلى استيراد أدوات غيره فشخصت له مرضه على غير حقيقته، فتعاطى الدواء الخطأ فازداد مرضه وطالت أزمته.

ثانياً: البناء الفكري كمهمة

أما البناء الفكري كعمل ومهمة -يقوم بها من اقتنع بقيمة الفكرة في مشروعنا الحضاري-  فيتمثل في: ” القيام بتحريك الأفكار، وتطويرها، ونشرها، وإقناع أهل الرأي والفكر والتوجيه بها، وتحويلها إلى عناصر فاعلة، تمتزج بمناهج التربية وبرامج الإعلام في المجتمع، بحيث تشكل تياراً مستمراً، يزداد اتساعاً بتكاتف الجهود وتنسيقها، حتى تستجيب له مراكز القرار، وتتواءم معه، إن أرادت أن تستمر في أداء دورها كأداة معبرة عن ثقافة هذا المجتمع وخياراته وإلا وجدت نفسها في عزلة عنه، متخلفة عن آماله وقدراته، وسرعان ما يتجاوزها الزمن وتجرفها الأحداث” (محي الدين عطية / المسلم المعاصر، العدد 62، ص5).

وهذا يتطلب تكوين قاعدة فكرية؛ بل قواعد متنوعة في مجال العلوم والمعارف ومجالات العمل الثقافي والتربوي والدعوي تحمل الفكرة في شكل مؤسسي لتمثل قاطرة يلتف حولها من يعمل في هذه المجالات، ليتم من خلال هذه القواعد تكوين الوعي النوعي والجمعي بأهمية هذه الأفكار ودورها في تطوير المجتمع والنهوض بالأمة.

ثالثاً: البناء الفكري كوظيفة

أما من حيث وظيفة البناء الفكري فتتمثل في “إعادة تشكيل العقل المسلم وصياغته” وذلك بهدف:

– تحرير العقل من القيود والأسوار التى فرضت عليه من (الداخل والخارج).

– تخليص العقل من العجز الداخلي والخارجي أو تحقيق دعاء ومعادلة عمر ابن الخطاب  “اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز التقي”.

رابعًا: تجسير العلاقة بين مصادرنا الفكرية وذاتنا المعاصرة

تجسير العلاقة بين “مصادرنا الفكرية وذاتنا المعاصرة” إحدى الوظائف الأساسية في عملية “البناء الفكري”، وذلك للقضاء على حالة / الانفصال / العزلة/ والجهل بهذه المصادر الأصيلة لبنائنا الفكري وهذه المصادر تحديداً هي الوحي: القرآن والسنة، ومنتجات العقل المسلم في ضوئهما( التراث) وما يتضمنه من علوم ومعارف ونظريات مثلت معطى حضارياً مميزاً للعقل البشري – بصفة عامة – وللعقل المسلم بصفة خاصة.

الوحي هو العنصر الثابت في منظومتنا القيمية، والذى يدور حوله النظر والاجتهاد

إن حالة الانفصال / العزلة / والجهل بهذه المصادر، كانت بالأساس لانعزال المفكرين والمثقفين -الذين يعتبرون القنوات الأصلية لتوصيلها إلى لمجتمع المسلم- عن هذه المصادر، وذلك إما بفقدانهم الوعي بها، أو الانشغال عنها بمصادر أخرى وضعية؛ ومن ثم فإن تجسير العلاقة بين مصادرنا الفكرية الأصلية، وذاتنا المعاصرة : تتطلب

1- تعرف المفكرين والمثقفين، والمؤمنين بضرورة “البناء الفكري” – باعتباره العمود الفقري لمشروعنا الحضاري- على هذه المصادر في روية وتدبر، وهو ما يحتاج إلى صبر وتؤده، فإن ما انقطع في قرون يصعب تداركه في سنوات قليلة، فضلاً عن شهور أو أيام.

2-الاستيعاب الكامل للتصورات الأساسية التى تمدنا بها هذه المصادر لاسيما (الوحي) باعتباره العنصر الثابت في منظومتنا القيمية، والذى يدور حوله النظر والاجتهاد .

3- تصميم خارطة معرفية لمصادرنا الفكرية ومعطياتها الحضارية، والبحث المعمق في عناصر هذه الخارطة.

4- العناية بمسألة “المفاهيم” نظراً للالتباس، والزيف، والزيغ، والعبث الذى طرأ عليها في منظومتنا الفكرية المعاصرة من خلال “الاختراق الثقافي” و التغريب“، ورد هذه المفاهيم إلى أصولها ووزنها بـ”الميزان” و”الكتاب”. وبيان ملامح انحرافها وكشفه .

5- إدراك قواعد التعامل مع مصادرنا :

– القــرآن .

– السنـــة .

– التـــراث .

6- إدراك قواعد وضوابط التعامل مع فكر الآخر (تحديداً الفكر الغربي الحديث والمعاصر) وذلك لتجنب الخلط وسوء الفهم عند التعرض لهذه المصادر بغير منهج سليم يحدد قواعداً للتعامل الصحيح وضوابطا للفهم.

7- الاعتقاد التام بأن عملية “البناء الفكري” هي قبل البناء العلمي – أو التخصص في فن من الفنون، أو تسير معه ملازمة له، فإن إبداع العقل المسلم في فن من الفنون لابد وأن ينطلق من “تصوراته الأساسية” تحدد له المسار والمنهج، وتضبط له إشارات السير والنظر، وتوضح له الغاية والغائية.