لم تزل دعاوى إصلاح التعليم الديني التي ظهرت للمرة الأولى في القرن التاسع عشر تتردد اصداؤها إلى اليوم، وأول من رفع لواءها نفر من علماء الشريعة عاينوا الخلل الحاصل وآمنوا بضرورة الإصلاح قبيل أن تفطن إليه الدولة وتطالب المؤسسة الدينية بتحقيقه، ولعل الشيخ مصطفى العروسي شيخ الجامع الأزهر ( 1864-1870) أول من تنبه إلى تطرق الخلل إلى منظومة التعليم الديني حين وضع لائحة لإصلاح التعليم الأزهري، وتبعه آخرون مثل: محمد عبده الذي وضع بدوره لائحة لإصلاح التعليم العثماني، والطاهر بن عاشور في كتابه (أليس الصبح بقريب)، والأحمدي الظواهري في كتابه (العلم والعلماء ونظام التعليم)، وصولا إلى الدكتور طه جابر العلواني في مطالع القرن الحالي الذي سجل لنا خبرته الذاتية مع هذا التعليم في مذكراته وفي كتاب (التعليم الديني بين التجديد والتجميد) الصادر عام 2009.
وشهادة الشيخ العلواني على جانب من الأهمية لسببين: الأول، أنها جرت خلال عقدي الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي حيث درس الشيخ أولا في “المدرسة الآصفية الدينية” الملحقة بمسجد الفالوجة، ثم ارتحل للدراسة بالجامع الأزهر، ورغم وفرة المقالات والكتب التي تتناول التعليم الديني والقوانين الصادرة حوله خلال هذه الحقبة، إلا أنها تفتقر إلى الشهادات الذاتية التي تبين كيف كانت العملية التعليمية تجري داخل المساجد والمعاهد، وكيف اختلفت عن القرون السابقة، وكيف مارس الأشياخ دورهم وما موقفهم من الحداثة.
والثاني: أنها تزخر بأسماء شخصيات دينية من العراق وخارجه بعضها طواه النسيان، ويمكن الإفادة بما ذكره الشيخ من معلومات ومواقف في إعداد تراجم لها أو استكمال ما هو موجود في كتب التراجم الأخرى.
التعليم في المدرسة الآصفية
يوضح الشيخ العلواني معالم النظام الدراسي المتبع في المدرسة بالقول أن اليوم الدراسي كان يفتتح مع صلاة الفجر في المسجد ويختتم بصلاة العشاء، وكانت هناك استراحتان للطلاب احداهما للفطور والأخرى للغداء لا يستغرقان إلا ساعة ونصف من النهار، وما بين ذلك كله كان مخصصا للدرس والتعلم. والمنهج الدارسي كان يتسم بالمرونة، ولم تكن هناك جهة ما مسئولة عن توزيعه على السنوات الدراسية كما هو الحال في الأنظمة الحديثة، وحول هذا المعنى يذكر الشيخ أن وزارة الأوقاف أعدت برنامجا للتعليم الديني مدته اثني عشر عاما ولكن شيخه استطاع بفضل تفانيه وإخلاصه استطاع تدريسه وتلقينه للطلاب في أربعة أعوام لا غير، وهكذا اختصر ثمانية أعوام كاملة كان حتما عليهم أن يقضوها قبل التخرج إن كانوا درسوا وفق النظام الحديث الذي صاغته الأوقاف.
أما الشيخ عبد العزيز السامرائي شيخ المدرسة الآصفية والمدرس الوحيد بها، فقد توقف العلواني أمامه طويلا ورسم لنا ملامح شخصيته بدقة؛ فهو وافر النشاط يجوب شوارع مدينة الفالوجة ويطرق أبواب منازلها كلما سمع أن أحدهم لديه ولد نجيب، فيذهب إليه طالبا إليه أن يهبه للعلم الشرعي، وهو متجرد ومتفاني لا يقبل من تلامذته شيئا نظير تعليمه إياهم، وهو مؤمن بالإصلاح الاجتماعي حيث اقتلع كل ما هو دخيل على الإسلام من عادات اجتماعية كالمغالاة في المهور، وإطلاق الرصاص في الجنائز وما إلى ذلك. وعلى الجانب الفكري كان الشيخ يرفض التصوف والسلفية ويحذر تلامذته من الانسياق خلفهما، وكذلك كان رافضا لكل ما يمت للغرب بصلة تحت دعوى التغريب، لذا كان ينصح دوما بألا يرتدي الإنسان البدلة الإفرنجية، ويرفض التصوير والفنون الحديثة، والتعليم الغربي.
ومما ذكره العلواني يمكن الاستنتاج أن بعض المناطق الإسلامية حتى منتصف القرن الماضي ظلت متمسكة بتقاليد التعليم الإسلامي المتوارثة منذ قرون، وبعيدة عن تدخل الدولة حيث كان الأستاذ/ الشيخ هو المسئول عن اختيار المقررات (المنهج)، والإشراف على مجريات العملية التعليمية، وتوقيتاتها، ومنح الخريجين إجازات تفيد تحصيلهم قدر كاف من العلم الشرعي.
مزايا التعليم الديني وعيوبه
ولا يغيب عن العلواني الإشارة إلى أن نظام التعليم الإسلامي -مثله مثل غيره من النظم التعليمية- يتمتع بمزايا عديدة إلا أنه لا يخلو كذلك من بعض السلبيات:
أما المزايا فتتلخص في كونه نظام زهيد لا يكاد يكلف الدارس شيئا فليست هناك مصروفات ثابتة بل إن الشيخ يتقاضى من طلابه دوريا ما يتيسر لذويهم تقديمه وهو غالبا نزر يسير، وهو نظام صديق للبيئة يقوم خلاله الطلاب وبخاصة الصغار بالكتابة على ألواح حجرية وإعادة استخدامها في كل مرة مما يوفر الأوراق والأحبار وغيرها، وهو نظام يتسم بالفاعلية والكفاءة إذ يمضي الطالب يومه كاملا في المسجد متفرغا للدرس، وبهذه الكيفية يستطيع استيعاب أكبر قدر من المعارف في أقل وقت.
وأما السلبيات التي يرصدها العلواني على هذا النظام فأبرزها أنه يقوم على التلقين ولا ينمي حاسة النقد لدى الدارس، ومرجع ذلك أن الشيخ في النظام الإسلامي يعد قدوة ومثل أعلى ولا تجوز مخالفته أو مناقشته، وأنه لا ينفتح على العلوم والأفكار الحديثة ولعل هذا ما يورث الدارس الانغلاق والتشدد الفكري.
سبل التجديد
واستنادا إلى هذه السلبيات وإلى خبرته الطويلة مع التعليم الديني تلميذا وأستاذا وفي سبيل تجديد منظومة التعليم الديني ، حاول طه العلواني تقديم عدد من المقترحات بعضها طبق بالفعل من خلال جامعة قرطبة التي ترأسها، حيث أعاد الشيخ هيكلة مناهج العلوم الإسلامية التقليدية على نحو يجمع بين التراث والحداثة.
ماهي مقترحات طه العلواني حول تجديد منظومة التعليم الديني ؟
إعادة صياغة التعليم الإسلامي بحيث يكون قادرا على بناء شخصية إسلامية متوازنة، تتحلى بالفاعلية، ولا يكون ذلك إلا بتخليص العقل المسلم من الثنائيات الحادة التي حكمته لمدة طويلة مثل: الشرق والغرب، الروحي والمادي وغيرها.
دراسة العلوم النقلية بالطرق التقليدية المتوارثة منذ قرون لن تؤدي إلا إلى مزيد من التمزق والانغلاق وبذر بذور الشقاق والصراع بين المسلمين وغيرهم، ولذلك لابد من بناء جسور بين العلوم النقلية والمعارف الحديثة، إذ يكفل هذا عدم انغلاق النموذج المعرفي المؤدي بدوره إلى انغلاق عقل المتعلم وجموده.
إحياء مبدأ تصنيف المعارف إلى ما هو ممدوح وما هو مذموم بمقتضى ضوابط المنهج القرآني، فالعلوم كلها -كما يعتقد- شرعية ما دام الشرع يقرها ويحث عليها، وما دامت تصنف ضمن العلوم النافعة أو ما أسماه الإمام الغزالي بالعلم المحمود.
بناء برامج التعليم ينبغي أن تؤسس على قاعدة “الجمع بين القراءتين” ويعني بها قراءة الوحي أو الكتاب المسطور، وقراءة الكون أو الكتاب المنظور، وانطلاقا من هذه القاعدة يمكن بناء نسق معرفي يعيد الارتباط بين الوحي الإلهي وبين الوجود الإنساني والكوني، ليكونا معا مصدرين متكاملين للمعرفى البشرية.
لابد من تدريب المتعلم على التمييز بين الثوابت التي تعطي للعلم الوجهة والغاية وبين المتغيرات والفرعيات التي لا يضير قليلا أو كثيرا تعديلها أو التخلي عنها، وكذلك لابد من تدريبه على النقد ليصبح قادرا على التعامل مع مصادر المعرفة وفق قاعدة أنه لا يمكن قبول فكرة أو رفضها دون دليل معتبر بشروطه.
نتبين مما سبق أن الشيخ طه العلواني شُغل بقضية تجديد التعليم الديني من خلال صوغ المقترحات، وإعادة بناء مناهج العلوم الإسلامية على أسس توافقية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بغرض إرجاع العلوم الإسلامية إلى طبيعتها الاجتماعية والإنسانية والاجتماعية.