يُنسب للفضيل بن عياض قوله ” إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلُق دابتي وجاريتي”، بمعنى أن هذا العبد الصالح يقيس ردود الأفعال في محيطه الاجتماعي بمقياس الآية الكريمة:﴿ قل هو من عند أنفسكم﴾ آلعمران.165. ونستنتج من هذا الموقف أمرين اثنين، أولهما حساسية المؤمن إزاء المعصية، واستشعاره للخيط الرفيع بين ما يُبتلى به وما جنته يداه. والثاني: رصدُه للأثر الدنيوي للمعصية، وأن العقوبة تتخذ صورا متدرجة، تبتدئ بسلب العطاء المعنوي الذي قد يغفل المرء عن أهميته، وتنتهي بالعطاء المادي المألوف لدى عامة الناس، من صحة، ومال، وجاه، وغيرها..

جرت المشيئة بأن يرتكب ابن آدم المعصية، فشرع الله تعالى التوبة والاستغفار وألوان العبادة للإقلاع عن الذنب و تصحيح المسار. لكننا نعاين اليوم في دنيا الناس جهلا بما يمكن أن نسميه “فقه المعصية”، أي منظومة النصوص والتوجيهات التي تبين دوافع المعصية، وأوجه ارتكابها، ثم نماذج حية لمن وقعوا في حبائلها ومَن ألهمهم الله تعالى سبل الخلاص منها.

وغياب هذا “الفقه” إن جاز التعبير، أوقع الناسَ في فخ الأعذار والمبررات التي لا تساعد على التوبة والتخلص من المعصية، بقدر ما تهيء الأجواء لارتكابها والتطبيع معها؛ حتى صار البعض بارعا في إيجاد الحيل اللاشعورية التي تزيح عن كاهله الاعتراف بالتقصير.

للمسألة أبعاد ثلاثة: بُعد نفسي، وبُعد تربوي، وثالث اجتماعي.

أما البعد النفسي فيتعلق بالجهل بالتركيبة السوية التي يتألف منها الكيان الإنساني، و المتمثلة في التوازن القائم بين الدوافع و الضوابط. بمعنى أنه إلى جانب الغرائز التي تحرك النشاط الإنساني، وتوجه الطاقة اللازمة لحفظ الذات والنوع، يظهر صمّام الإرادة و الحرية والاختيار والعلم كضوابط كامنة في الطبيعة الإنسانية، لا تظهر في بادئ الأمر كما تظهر الغرائز، لأنها بحاجة إلى نوع من المساعدة الخارجية لتؤدي وظيفتها كاملة. لذا حين يحتج مرتكب المعاصي بسطوة الغريزة، فإنه يغفل عن أجهزة الضبط التي تتمتع بها فطرته السوية، والتي تشكل المقابل الواعي لعمل الغريزة، ونظام الفرملة الذي تُنضجه التربية وترعاه منظومة القيم.

ويرتبط البعد التربوي بأساليب المعاملة الوالدية، والتنشئة الأسرية التي تحرم الطفلَ نصيبَه من تحمل المسؤولية، فينشأ فاقدا للثقة في ذاته؛ أو تبالغ في تدليله فيرى الوجود بأسره خادما لرغباته ونزواته. وفي كلتا الحالتين يتعود الطفل على التبرير والأعذار، ويفقد الإحساس المتوازن بالعالم من حوله.

مربط الفرس هنا إذن هو ضرورة القطع مع أساليب التنشئة التي تعزل الطفل عن مجرى الحياة من حوله. إذ لابد أن تعمل الأسر على تعريض أبنائها لاختبارات الحياة التي تعزز ثقتهم بقدراتهم، وتنمي دافعيتهم لخوض المزيد من التحديات، حيث تنشط طاقات الحياة لديهم.

حين يقع الفرد أسير جهله بتركيبته النفسية، وضحية تنشئة أسرية غير سليمة، فإن منطق التبرير الذي يحكم انحرافاته وزلاته يؤسس لاحقا للبعد الاجتماعي للمعصية، حيث يجري التطبيع مع نماذجها ومظاهرها، وتبرز التسميات الملطفة التي تخفف من وقعها الخطير. هكذا يصبح الزنى “نزوة”، وسلب  حقوق الغير “غلطة”، وهتك الأعراض “طيش شباب”. ويتسع حضور “القضاء والقدر” كمشجب تُعلق عليه كافة الزلات والانحرافات، في تجاوز معيب لإرادة الإنسان وحريته واختياره.

ورغم أن للمعصية أدبياتها المبثوثة في المكتبة الإسلامية، إلا أن هناك تقصيرا ملحوظا في التفاعل اليومي للدعاة والخطباء، سواء على المنابر، أو عبر وسائل التواصل المستحدثة. ويكمن التقصير في ترديدهم المتكرر لوصفة العلاج دون تشريح وعرض لأسباب الداء. إذ تظل فعالية التوبة والاستغفار رهينة بوقوف المسلم المعاصر على أصول المعصية وآثارها، وخطورة انعكاسها ليس فقط على حالته النفسية، وإنما على حركته اليومية وعلاقته بما حوله و “مَن” حوله.

تُطالعنا المكتبة الإسلامية بجهود مثيرة للانتباه، واستفاضة في تتبع الاهتزازات العميقة التي تُحدثها المعصية على وجدان الفرد وسلوكه. وهي الجهود التي تكشف أن معظم ،إن لم يكن، كل المشاكل والأزمات التي يتخبط فيها المجتمع المسلم وثيقة الصلة بالمعصية، وخلاصة الزيغ عن صراط الله المستقيم، والتطبيع مع الأوضاع المائلة.

يَرُدّ ابنقيم الجوزية[691-751هـ] أصول المعصية، كبارها وصغارها، إلى ثلاثة: تعلق القلب بغير الله، وطاعة القوة الغضبية، والقوة الشهوانية.

فغاية التعلق بالله: الشرك ، وغاية القوة الغضبية: الظلم المفضي إلى القتل، وغاية القوة الشهوانية: الزنى. ولهذا جمع الله سبحانه الأصول الثلاثة في قوله: ﴿والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ﴾ الفرقان.68 [ابن القيم. الداء والدواء].

بعد تحديد أصول المعصية في الشرك والظلم والفاحشة، يتوغل ابن القيم بحِذق الخبير في أعماق النفس البشرية وطبائع السلوك الإنساني، ليستخرج ما يناهز خمسين أثرا من آثار المعاصي. ويضعنا حقيقة أمام أنواع من البلايا التي يَجهد الناس لِبحث أسبابها الخارجية، ليجعلها وثيقة الصلة بما يرتكبه المرء من آثام.

لا يتسع المقام بطبيعة الحال لعرضها جميعا، لكن يمكن إجمالها في ثلاث دوائر كبرى هي:

– أثر المعاصي على القلب والنفس.

– وانعكاسها على حركة الفرد داخل المجتمع من حيث: العمل، والرزق، والعمر وغيرها.

– ثم تأثيرها على علاقاته الإنسانية بصفة عامة.

فيما يتعلق بالدائرة الأولى فإن المعصية تصيب القلب بالوهن، وتُضعف إرادته ومقاومته حتى تنسلخ من قلبه إرادة التوبة، “فلو مات نصفه لما تاب إلى الله”.

ومنها أنها تطفئ من القلب نار الغيرة، وتُذهب الحياء، وتُضعِف فيه تعظيم الرب عز وجل، وتطمس نوره، وتسد عنه طرق العلم والهداية. ثم يجد فيه ظلمة تقوى حتى تظهر على الوجه وتصير سوادا يراه الناس.

ويظهر أثرها على النفس في زوال استقباحها للمعصية، فلا يبالي برؤية الناس له، ولا كلامهم فيه.

ومنها أنها تُصغر النفس وتُحقّرها وتُدسيها؛ فالعبد إذا داوم المعصية نسي نفسه، وإذا نسيها أهملها وأفسدها.

ولعل أشدها ضراوة ما ينشأ عن المعصية  من إقفال وختم على القلوب، ومسخها على صورة قلب الحيوان الذي يشابهه العاصي في أفعاله. “فمن القلوب ما يُمسخ على خُلُق خنزير، ومنها ما يُمسخ على خُلق كلب أو حمار أو عقرب أو غير ذلك “.

أما على مستوى الدائرة الثانية فالمعصية تُقصّر العمر وتمحق بركته؛ لأن الحياة الحقيقية للمسلم هي ساعات عمره التي يقضيها موصولا بربه عز وجل، فإذا أعرض عن الله وانكب على المعاصي ضاعت عليه أيام حياته الحقيقية.

ومن آثارها أيضا: حرمان العلم، لأن العلم نور من الله يقذفه في القلب، والمعصية تطفئه.

ومنها: حرمان الرزق وذهاب بركته، وزوال النعم الحاضرة.

وفيما يهم الدائرة الثالثة فإن المعصية تؤثر على شبكة العلاقات الإنسانية التي يُنشئها الفرد من حوله، وتهز مكانته الاجتماعية ونصيبه من الاحترام والتقدير بين الناس.

إنها سبب للوحشة بينه وبين الناس، ولا سيما أهلَ الخير منهم. وكلما زاد إقباله على المعاصي قويت تلك الوحشة، فيبعُد عنهم وعن مجالستهم. ثم يمتد أثرها إلى أهله وأقاربه حتى تراه مستوحشا من نفسه!

ومن آثارها: هوان العبد على ربه عز وجل وسقوطه من عينه. وإذا هان العبد على ربه لم يكرمه أحد، فيصير من السفلة، ويجترئ عليه كل الخلق. فإذا ألِفَ المعصية وأحبها أرسل الله تعالى عليه الشياطين تؤزه إليها أزا. وذاك مصداق قوله تعالى ﴿ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء﴾ الحج:18

ويمتد أثر المعاصي إلى الموجودات بأسرها، فتُحدثُ أنواعا من الفساد في الهواء، والزرع والثمار والمساكن. قال مجاهد : إن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا اشتدت السنة، وأمسك المطر؛ وتقول: هذا بشؤم معصية ابن آدم !

ولا ينسى ابنالقيم، في معرض ترهيبه من المعصية، أن يحيل على فعاليتها التدميرية للأمم السالفة، ومغبة التطبيع المجتمعي والمسايرة التي تفضي إلى الهلاك: ” – إن- كل معصية من المعاصي هي ميراث عن أمة من الأمم التي أهلكها الله عز وجل: فاللوطية ميراث عن قوم لوط، وأخذ الحق بالزائد ودفعه بالناقص ميراث عن قوم شعيب، والعلو في الأرض والفساد ميراث عن قوم فرعون، والتكبر والتجبر ميراث عن قوم هود. فالعاصي لابس ثياب بعض هذه الأمم، وهم أعداء الله.”[الداء والدواء. ص142]

وأما إذا لم تنفع قائمة الآثار، وعشرات الأدلة التي ساقها ابنالقيم من الكتاب والسنة وأقوال السلف لثني العاصي ورجوعه إلى الصواب، فلا محيد عن تخويفه بالعقوبات التي نص عليها الشارع الحكيم : ” فإن لم ترُعكَ هذه العقوبات، ولم تجد لها تأثيرا في قلبك، فأحضِره العقوبات الشرعية التي شرعها الله ورسوله على الجرائم.”[ص258]

إن توزيع آثار المعصية على ثلاث دوائر لا ينفي التداخل الموجود بينها، فكل أثر قلبي يُولّد السلوك الذي يناسبه، فينعكس على شكل العلاقة المجتمعية القائمة بين العاصي و عموم الناس. من هذا المنطلق يسقط التبرير الخارجي، والذرائع المنفصلة عن الذات والتي اعتاد الناس على ضوئها طرح همومهم ومشاكلهم وصراعاتهم.

من جهة أخرى فإن أعمال الخير والإحسان التي تتصدى لها هيئات المجتمع المدني، تؤسس في أحيان كثيرة لخطاب مظلومية زائفة، قوامها أن الفقير والعاجز والشيخ المتخلى عنه هو ضحية للمجتمع. ولست هنا أنفي مخلفات تفكك الروابط المجتمعية، وإنما أدعو لشيء من الاعتدال والتوسط في إطلاق أحكام مجحفة. يقول ابن الجوزي:” إذا وقعت عقوبة لتُمحص ذنبا صاح مستغيثهم: ترى هذا بأي ذنب؟ وينسى ما قد كان مما تتزلزل الأرض لبعضه! وقد يُهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب، ولا يدري أن ذلك لإهماله حق الله تعالى في شبابه. “[صيد الخاطر،ص45] بمعنى أن للبلاء وظيفة علاجية، تُطهر العبد من الذنوب التي ارتكبها. وليس في الأمر قسوة ظروف، أو أن الإله تخلى عن “خِرافه” كما يردد دعاة الإنسانية الفجة والمُغرضة !

إن المعصية متوطنة في الوجود الإنساني منذ الأزل، وليس بإمكان عاقل أن يزعم القضاء عليها، أو تحرير المجتمع من آفاتها. بيد أن الدعوة للقبول بها، وإقرارها ثم التعايش مع نماذجها تحت مسمى الحرية الفردية، ليس سوى لعب بأعواد الثقاب، وتهديد للتماسك المجتمعي الذي يفترض هؤلاء، في تناقض مريب، بأنه شرط التنمية و الإقلاع الاقتصادي، والثبات في عالم متأرجح !