في مطلع كل شهر هجري يتحرى المسلمون الهلال وأمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم في الحديث: تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان، حيث أمرهم أن يتحروا  ليلة القدر ويلتمسوها في العشر الأواخر من رمضان.

هل التحري مرتبط في حياة المسلم بالهلال وليلة القدر أم أنه منهج حياة؟

التحري أولا مرتبط بشخصية تتطلع إلى المعالي ولا ترضى بأي اختيار بل تؤدي أعظم الأعمال بأفضل الطرق والتحري مرتبط كذلك بالحكمة التي تعين الإنسان على الاختيار الصحيح بعد استعراض الخيارات المتاحة.
يحثنا النبي صلى الله عليه وسلم على تحري الصدق فيقول: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا»[صحيح مسلم] يرسم لنا النبي صلى الله عليه وسلم الطريق إلى الجنة والذي يمر عبر تحري الصدق والذي يعني فيما يعني أن يبحث المسلم في قاموسه عن أدق الكلمات في التعبير عن الواقعة التي يتحدث عنها، ويتحرى قدرته على تنفيذ العهود التي يقطعها على نفسه قبل أن يعد الآخرين.
وفي الجانب المقابل يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من النار ويبين أن أحد أسباب دخولها هو تحري الكذب يتحرى الكاذب الكذب حتى لا يكتشف من يسمعه أنه يكذب فالكذبة الواحدة تستدعي عشرات الكذبات حتى يوهمك الكاذب أنه صادق.  

تمتلئ الساحة بالصدق الصريح والكذب الصريح والصدق الذي يختلط بالكذب والصدق الذي يقتطع من سياقه وقول نصف الحقيقة وحجب نصفها ليس من شيم الأبرار يتحرى المسلم  الصدق فيما يقوله و يسمعه و يقرؤه ويشاهده ممتثلا لأمر الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات: 6]ويتقي الله تعالى حتى يستطيع أن يمتلك اداة تحري الحق  {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } [الأنفال: 29] تفرقون به بين الصدق والكذب والحق والباطل، ويبتعد عن الظنون  فلا يحكم إلا إذا ظهرت البينة {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]

ما هي أوجه التحري في حياة المسلم؟

تحري أكل الحلال فهو سبب لرضوان الله تعالى عن العبد، وسبب للبركة في الصحة والأهل والمال والولد، وسبب لإجابة الدعاء، وفي عالم تشتعل فيه الرغبات وتتكاثر حاجات الإنسان بشكل يفوق دخله، يتوقف المؤمنون عند الحلال ويصبرون على ما لم يجدوا من متع الحياة؛ لأن المال الحرام لا يمكن أن يعود على صاحبه بمتعة أو منفعة ولو توافرت أسباب المتعة  يجد الانسان في صدره ضيقا  لايوسعه إلا أن يتوب عن هذا الحرام، ولا يمكن أن يسوي الله تعالى بين ما كسبه الإنسان من حلال وما كسبه من حرام.
تحري الرشد في القرارت المصيرية ولن يكون ذلك إلا إذا كان تحري الرشد منهج حياة يقوم به الإنسان بعيدا عن الانفعالات التي تمثل ردود فعل متعجلة وغير مدروسة، رشد يقوم على الموازنة بين الأمور واختيار أكثرها نفعا أو أقلها ضررا أو الجمع بين أكثر من منفعة، ورشد يقوم على ترتيب الأولويات في حياة المسلم فما العاجل الذي لابد من القيام به الآن وما الذي يمكن تأجيله لفترة رشد يراعي قدرة الإنسان المالية والبدنية والنفسية قبل الإقدام على عمل.

تحري قادة الرأي من خطباء وإعلاميين وغيرهم ما يهم الناس وينتظرون فيه ما يدلهم على الصواب بشرط أن تكون لديهم الإمكانية لإدراك الصواب من الخطأ.

تحري زمن إخراج الزكاة ومراعاة عدم مرور وقت أداء الزكاة.

قال عليه الصلاة و السَّلام: (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِى الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ) [صحيح البخاري] وفي هذا إرشاد نبوي للبحث عن أوقات نزول الخير والاستعداد لها حتى لا تفوت.

 تحري الحكم بكتاب الله قال صلى الله عليه وسلم (وَمَا لَمْ يَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَحَرَّوْا فِيهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بأسهم بينهم)[ الاستذكار]. هذه عقوبة يجدها الخاصة والعامة في الصراعات الداخلية التي تذهب الحرث والنسل وتأكل الأخضر واليابس، وإذا انصرفت أمة للصراعات التي بينها، غاب البناء والعمران وفسدت أحوال الناس، كل هذه الآفات سببها غياب الحكم بكتاب الله تعالى وتحري تطبيقه على الحياة.

والتحري مطلوب في حال الشك  قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ) [شرح النووي على مسلم]سواء كان الشك في الصلاة أو في غيرها واجب على المسلم أن يبذل وسعه لكي تتضح له الحقيقة وإلا فان الانقياد وراء الشكوك يدمر الحياة ويصنع العداوات ويفقد الأصدقاء

ومن البر بالوالدين تحري ما يحبونه من طعام وشراب وصديق وحديث تؤنسهم به، وتحري أوقات نشاطهم وراحتهم حتى لا تزعجهم.

تحري أوقات الدعاء والتوجه إلى الله تعالى فيها بما يشغلنا من كبير الأمور وصغيرها واستحضار عجزنا وقدرة الله تعالى

تحري الحكمة فلا يضع السيف مكان العصا ولا العصا مكان السيف.

تحري ما ينفع (احرص على ما ينفعك) ففي الدنيا من الملهيات ما يضيع معه العمر وتنفد معه الأموال دون أن يصل الإنسان لشئ احرص على ما ينفعك في أمور دينك ودنياك وما ينفعك في الدنيا إن نويت به التقرب إلى الله واخذته بما يرضي الله  نفعك في الآخرة.

أحيانا ينفق الإنسان أشياء عينية وعليه أن يتحرى أفضل الأشياء حتى لا يقع في النهي الذي قال الله تعالى عنه {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267]، ولعل ذلك يتضح عند اختيار الأضحية، وعند تقديم ملابس العيد للفقراء، أو شراء السلال التي تحتوي على أطعمة تقدم في رمضان.

تحري أفضل الوجوه في النفقة ستجد أصحاب الحاجات المتعددة، منهم الفقير المريض الذي يحتاج أبناؤه لنفقات التعليم، وستجد وجوها للنفقه ينتفع بها  شخص أو أشخاص، ووجوه أخرى ينتفع بها عشرات أو مئات ستجد أبوابا للنفقة مطروقة يتجه إليها الكثير من الناس وأبواب أخرى هي أبواب للخير الكثير لكنها لا تحظى بإقبال وقل من يلتفت إليها

تحري وحدة الكلمة في الأقوال والأفعال، كم من كلمة أوقدت نيران العداوة، وكم من كلمة هادمة، وكم من كلمة ألفت بين الناس، وكم من كلمة أطفأت نيرانا، وقد كان هذا المعنى حاضرا في ذهن هارون عليه السلام وهو يتعامل مع بني إسرائيل  {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه: 94]

تحري التعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان، فإن المجتمع المتماسك يتسارع إلى الخير وطريق الخير يسير المسلمون فيه صحبه طيبة قلوبهم، يشعرون أنهم كالجسد الواحد.

تحري القبلة وتحديد الوجهة: مطلوب من المسلم أن يتحرى القبلة بما أمكنه من وسائل لأن أحد شروط صحة الصلاة واستقبال القبلة ومسألة بذل الجهد في التعرف على الوجهة الصحيحة، أو التي يغلب على الظن أنها صحيحة، أمر ينبغي أن يكون منهج حياة بالنسبة للمسلم فإذا أراد أن يختار أمرا ما عليه أن يتأكد من صواب اختياره زواجا كان هذا الأمر أم طلاقا، بيعا أو شراء، إقامة صداقة او إنهائها إلى غير ذلك من أمور تتعدد فيها الوجهات، وعليه أن يختار أفضل الجهات وأقربها للحق.

ومن خلال تحري الوجهة الصحيحة يظهر الإنسان الصادق في إيمانه والمدعي الكذاب {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] فصادق الإيمان وجهته إلى الله  غالبا، وإن قصر مرة أو انحرف أخرى سارع إلى تصحيح مساره وتحويل وجهته إلى الوجهة الصواب، فما أكثر المتكلمين بالحق الذين تخالف ألسنتهم ما في قلوبهم، وما أكثر الأدعياء الذين تخالف أقوالهم أفعالهم، وكلما كان الاختيار صعبا كان الدليل على صدق الإيمان قويا.