لقد باتت ظاهرة التَّأثير بواسطة وسائط الإعلام الجديدة يفعل فعله، ويترك أثره في الفضاء العام، ويجب بدءا، التّمييز بين التأثير المفيد والخيّر ، وبين التأثير غير المفيد والسّيء؛ فالأصل في هذه الوسائل أن تكون كلها خيرات نافعات وحسنات؛ أي مصالح؛ وأن لا تكون شرورا مضرّات وسيّئات، أي مفاسد.

إلا أنّ واقع الحال، هو كثرة المواقع التي تكتسب أهميتها، ليس من القيمة الإيجابية لمضامينها، ولا من المصالح التي يحتاجها النَّاس، بل من سطحيتها وفراغها العلمي وفسادها الأخلاقي، إنَّها تتخفىَّ خلف جمالية الصُّور والتقنيات؛ كي تنشر المحتويات الهابطة، ولعل من مظاهر هذا الهبوط، هو أنها تفصل بين اللغة والقيمة، فالأصل في اللغة أنّها حاملة للمعاني الرَّفيعة، والعبارات الجزيلة، لكنها مع المحتويات التَّافهة و الهابطة، أصبحت مجرد كلام وثرثرة، كما أصبح الكلام في هذه المحتويات كلاما يخدش الحياء ويرفع من أهمية الكلمات المتفحشة والسُّباب والقذف.

باتت هذه المحتويات في جزء منها حربا نفسية على اللغة الحاملة للقيمة والمعنى، ونشرُ للخصوصيات الذَّاتية والدفع بالمتتبعين إلى كسر الأوامر الأخلاقية مع الذَّات وفي الأسرة وفي شبكة العلاقات الاجتماعية؛ وقد أدركت هذه الفئات الصَّانعة للمحتويات التَّافهة، أن حصولها على أكثر المتابعين ودخول المال إلى حساباتها متلازم مع التعدي على الحدود الدينية و الأخلاقية و الاجتماعية، والتكشّف للجسد واستعمال الكلام المنفصل عن القيمة، وكأن لسان حالها هو : بقدر ما تبث المجون والخلاعة بقدر ما تكسب أكثر، و أحد الأسباب في كثرة المتابعين لهم؛ أنّ الشبيه يُدرك الشَّبيه كما قال ابن سينا؛ فلولا تماثل نفوسهم لما كان هذا التَّلاقي في الوسائط الإعلامية.

إنَّ صناعة هذه المحتويات التَّافهة، وإيجاد الفضاءات الإعلامية السَّائدة لنشرها، ما هو إلا حرب على الهوية الأخلاقية للإنسان، إنها المحتويات المليئة بالوقاحة، ومعروف في تعريف الوقاحة، أنّها اللُّجاجة في تعاطي القبيح من غير احتراز من الذَّم، ويمكن القول أن من أسباب هذه الوقاحة، المستوى التعليمي المنعدم لدى هؤلاء، فأغلب الوقحين في نشر المحتويات التافهة؛ نماذج فاشلة في دراستها، والنفس ما لم تكن ملآنة بالعلم والخير، امتلأت بالجهل والفساد، فهذا الوصف ملازم لهم؛ أي الجهل والغباء و الفراغ العلمي و الأخلاقي.

بالإضافة إلى ذلك، أنَّ جزءا منهم، عاش حياة البؤس والضياع الاجتماعي و الفشل الأسري، وهذه الحالة الفاشلة أخلاقيا ودينيا واجتماعيا، يريد لها أن تكون مثالا وتجرية لغيره، ولهذا نلاحظ أن فئة من المؤثرين تقترن بهم ظواهر الفشل الأسري والدراسي والرؤوس الفارغة من العلم والقراءة و المعرفة، إنهم يريدون أن يجعلوا من ذواتهم الشَّاردة، نماذج للشباب في الحياة، بينما تمتلئ قلوبهم بالألم والحسرة وفقدان نقطة الارتكاز.

إذا كانت هذه بعض سمات صناعة التفاهة، فإنَّ شباب الثقافة و القراءة، لابد لهم من أن يشرعوا في صناعة محتويات مفيدة، ويستعملوا أيضا جمالية الصُّورة و التقنية، كي يخلقوا مراكز تأثير أخرى، والآكد أنَّ المجتمع أو العقل الجمعي يرى ويلاحظ ويحلل ويزن ما يسود وينتشر، ويتفاعل مع مصالحه التي هي خيرات نافعات حسنات، ويتنكّب عن هذه المفاسد التي تكتسب أهميتها لا من خيراتها ، وإنما من غرابتها، وقد قال ابن خلدون من قبل، أنّ النفوس مولعة بالغرائب!!!