يجيء شهر شعبان كل عام حاملاً معه ذكرى حدث كبير له في النفس منزلة، وفي العقل عبرة؛ ألا وهو حدث تحويل القبلة؛ الذي كان من الأهمية بحيث ثارت بسببه الأقاويل، وتزعزعت بعض النفوس الضعفية بعد إذ هداها الله!
وقد أبان القرآن الكريم عن شيء من حِكمة هذا تحويل القبلة وما نجم عنه؛ بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143).
جاء في تفسير ابن كثير: يقول تعالى: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة؛ ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدًا عن دينه، وإنْ كان هذا الأمر- أي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة- عظيمًا في النفوس، إلا على الذين هدى الله قلوبهم، وأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد؛ فله أن يكلف عباده بما شاء، وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك؛ بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكًّا، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديقٌ (1).
وتحويل القبلة إذا نظرنا إليه من حيث مغزاه، رأيناه حدثًا يدل على أمرين مهمين:
أولهما: التفرقة بين الغايات والوسائل؛ فعبادة الله تعالى هي الغاية، أما التوجه لقبلة مكانية فهو وسيلة تنضبط بها العبادة، وليس أمرًا مقصودًا لذاته.
ثانيها: الإشارة إلى أن فكرة “التحويل” أو “التحول” ليست خطأ في ذاتها، وإنما هي تدور مع هدفها؛ فهي- بلغة الفقهاء- أمر تعتريه الأحكام الخمسة، من الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة. فمثلاً؛ التحول عن المعصية واجب، وعن المكروه مندوب، وعن المباح مباح، وعن الفريضة حرام إلا بعذر معتد به.. وهكذا، ترشدنا هذه الفكرة- فكرة التحول- إلى ضرورة مراجعة الذات والموقف، وإلى عدم الحرج من الانتقال عن أمر ثبت خطؤه أو عدم فاعليته.
وهذا طبعًا توسيع للمفهوم، وإلا فإن التحول إلى المسجد الحرام، أمر مفروض لا خيار فيه، ولا يعني أن القبلة السابقة كانت خطأ؛ وإنما التوجه إلى القبلتين كان أمرًا من الله، واختبارًا منه.. وهما توجهان صحيحان، كلٌّ في زمانه، والله سبحانه لا يضيع أجر من التزم أمره في السابق أو اللاحق.
وجريًا على هذا التوسع في المفهوم، يمكن أن نقول: ما أكثَر ما علينا أن نتحول عنه في حياتنا، حتى نراجع الفكر والفعل، ونعيد التصور والموقف، ونضبط البوصلة والقِبلة من جديد، تبعًا لما أمر الله تعالى وبيّن رسوله الكريم ﷺ؛ فكتاب الله وسنة نبيه هما قبلة المسلم، عليهما يضبط توجهه، وإليهما تنصرف حركته في الحياة، فعلاً وتركًا.
فثمة أمور فكرية واجتماعية، علينا أن نحوِّل قبلتنا عنها؛ لأنها تضر بعقولنا وخطواتنا، وتبعد بنا عن الرشد في الفهم والفعل؛ مثل: التعميم.. ازدراء العقل.. الفردية.. الرياء الاجتماعي.
التعميم
ونقصد به إطلاق الأحكام بصفة عامة لا خاصة ولا محدَّدة؛ بحيث لا نميز بين المواقف ولا بين الأشخاص؛ وإنما نعامل الجنس بسبب الفرد، ونستمد الحكم من حادثة واحدة لا من إجراء استقرائي.
ولا شك أن هذا التعميم خطأ منهجي، لا ينضبط به حكم، ولا يستقيم به تصور. وقد علَّمنا القرآن الكريم أهمية التفرقة بين المتشابه، والتمييز بين المواقف والأشخاص؛ حين أخبرنا عن أهل الكتاب أنهم ليسوا جميعًا على شاكلة واحدة، فقال: {لَيْسُوا سَوَاءً} (آل عمران: 113)، وقال أيضًا: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (آل عمران: 75).
وبسبب التعميم يقع غربيون كثيرون في خطأ وصف الإسلام بالعنف أو الإرهاب، نتيجة قيام شخص أو مجموعة من المسلمين بفعل يصح وصفه بالعنف أو الإرهاب.. ولو أنصفوا لعلموا أن غالبية المسلمين يستنكرون هذا الفعل، ويعانون منه تماًما كما يعاني غيرهم! فكيف يمكن وصف المسلمين بما يقوم به فرد أو مجموعة أفراد، خاصة أنه فعل مستنكَر من الغالبية؟!
فعلينا أن نحوِّل قبلتنا عن التعميم إلى التدقيق، وإلى عدم استسهال إطلاق الأحكام، أو استمداد التصورات من حوادث فردية.
ازدراء العقل
في حياتنا مظاهر كثيرة تشير إلى أننا لا نولي العقل أهميته الواجبة. وبعضنا للأسف يسلك في ذلك مسلك المنطلِق من الدين؛ إذ الدين في تصوره قائم على اختبار أفراده وطلب التسليم؛ أي لا مجال للعقل والفهم!
وليس الأمر هكذا بالضبط، والإسلام أبعد ما يكون عن الاتهام بمنافاة العقل أو التقليل من شأنه؛ ومساحة التعبد المحض محدودة جدًّا في التشريع، وهي في العبادات، بل ليست في كل العبادات. ويكفي الإسلامَ أنَّ أول ما أُنزل من كتابه كلمة {اقْرَأْ} وليس كلمة “اعبُد” أو “صلِّ” أو غيرها مما قد يُفهم منه محض التعبد. يقول الشاطبي: “والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وُضعت لمصالح العباد”(2). وهذا يستلزم إعمالَ العقل في تلمُّسِ المصلحة، وفي إنزال النص على الواقع.
ولا أريد أن أحصر فكرة تحويل القبلة نحو إعمال العقل، في المجال الديني فقط، أي التشريع، وإنما أن نشيعها في المجالات كافة؛ بما يعني العمل على تعويد النشء منذ الصغر على إعمال العقل واحترام الفكر والرأي، والقبول بالاختلاف، والتعامل مع الحجة بالحجة، وعدم النفور من النقاش أو الخشية من النقد.. فهذه أمور تتصل بالتربية والاجتماع، تنبع من احترام العقل وتفعيله، بدلاً من موقف الازدارء والتهميش الذي يجب أن نحوِّل قبلتنا عنه!
الفردية
هذا سلوك اجتماعي له آثار سلبية، ويستصحب بعض الصفات النفسية غير القويمة، مثل العجب والكبر والتسلط؛ وربما أدى لبعض المواقف الخطأ، مثل التسرع، وأحادية الرؤية.
ولهذا كان النبي ﷺ كثير المشاورة لأصحابه، وينزل على رأيهم إذا رأت كثرتهم رأيًا غير رأيه، أو بادر أحدهم برأي واقتنع ﷺ به؛ كما في الخروج لملاقاة المشركين خارج المدينة في غزوة أحد، وفي النزول على رأي الحباب بن المنذر في غزوة بدر.
ونحن سنحصد الخير الكثير إذا تحولنا عن الفردية إلى الجماعية والعمل من خلال فريق عمل متجانس ومتكامل.. سواء في اجتهاداتنا الدينية، أو خطواتنا في العمران والتمدن.. نحن بحاجة إلى العمل معًا، في كل المجالات؛ خاصة إذا تشعَّبت العلوم والمعارف، وتعقدت مسيرة الحياة؛ ولم يعد للجهد الفردي وحده طاقة للنهوض بالعمل، ولا للإحاطة بالمتغيرات المتسارعة.
ومن نافلة القول هنا أن نشير إلى ما يتصف به الخطاب القرآني من جماعية في التوجيه (أي الخطاب بضمير الجمع)، إلا في مواطن قليلة تشير إلى فردية المحاسبة أمام الله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا}؛ فنحن مطالَبون بالعمل معًا، مع إدراك أن الحساب فردي، حتى لا يتكل بعضنا على بعض؛ ولا منافاة بين الأمرين.
الرياء الاجتماعي
وأما الرياء الاجتماعي فأمر يثقل كاهل الأسرة والمجتمع؛ ونعني به أن الإنسان يمارس أمور حياته الاجتماعية وعينه على الناس، لا على مقاييس الجائز والممنوع أو الخير والشر، بل ولا على مصلحته الذاتية.. فما يُرضي الناسَ يفعله، ولو كان غير جائز، أو ولو حمَّله ما لا يطيق! كما يحدث في مراسم الزواج والعزاء!
وقد آن لنا أن نهجر هذا الرياء الذي يثقل كاهلنا، إلى شيء من التبسط، وعدم الإسراف والمبالغة، وأن ينظر كل امرئ لما يناسبه وليس الآخرين! فذلك أدعى لأن تكون تصرفاتنا الاجتماعية رشيدة، خالية من الزخرفة والبهرجة في غير محلها، بعيدة عن السرف والترف وما يصحبهما من أزمات ذات آثار وخيمة..
إن درس تحويل القبلة باقٍ، ومداه واسع يتجاوز معناه الديني إلى فضاءات المعرفة والعادات والسلوكيات.. وما أكثرَ ما ينبغي أن نحوِّل قبلتنا إليه!!
([1]) تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، 1/ 457، بتصرف يسير.
([2]) الموافقات، الشاطبي، 2/ 12.