إذا جاز لنا أن نختصر رسالة الإسلام، ونوضحها بإيجاز غير مخل؛ فإن تحية الإسلام: “السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”، تقوم بهذه المهمة خير قيام، وتبيّنها على أفضل ما يكون البيان؛ بحيث يمكن القول: إن تحية الإسلام؛ تعكس رسالته، وتوضح مقاصده، وتختصر أهدافه

وتحية الإسلام قد جمعت ثلاث كلمات مهمة، هي كلمات “مفتاحية” لهذه الرسالة الخاتمة، والدعوة الهادية، والكلمة الأخيرة من الله تعالى للبشرية جميعًا إلى أن تقوم الساعة. وهذه الكلمات هي: السلام، والرحمة، والبركة.

السلام .. للجميع

وأولى هذه الكلمات المهمة في تحية الإسلام: “السلام”. وإذا كانت “تحية الإسلام” تختصر رسالة الإسلام؛ فإن كلمة “السلام” تختصر هذه تحية الإسلام؛ فهي كلمة مكتنزة المعاني، عظيمة الدلالة.

والسلام اسم من أسماء الله تعالى؛ قال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الحشر: 23).

وفي دلالة هذا الاسم الكريم لله تعالى، ذكر ابن قتيبة أن الله تعالى سمَّى نفسَه “السلام”؛ لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء. وقال الخطابي: معناه ذو السلام. والسلام في صفة الله سبحانه وتعالى: هو الذي سلم من كلّ عيب، وبرئ من كل آفة ونقصٍ يلحق المخلوقين. وقيل: هو الذي سَلِمَ الخلقُ من ظلمه”([1]).

وقد شرع الإسلام إلقاء السلام على من نعرف ومن لا نعرف؛ فإن إلقاء هذه تحية الإسلام مما يشيع الأمن بين الناس، ويكون بابًا للتعارف والتفاهم؛ وفي الحديث عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: “تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ” (متفق عليه).

ولعلنا نلاحظ في هذ الحديث الشريف أنه قرن إلقاء السلام بإطعام الطعام، وجعلهما عنوانًا على خير الإسلام؛ أي أفضل الأعمال فيه. جاء في (مرقاة المفاتيح): “(أَيُّ الْإِسْلَامِ) أَيْ: أَيُّ آدَابِ الْإِسْلَامِ، أَوْ أَيُّ خِصَالِ أَهْلِهِ. (خَيْرٌ؟) أَيْ: أَفْضَلُ ثَوَابًا أَوْ أَكْثَرُ نَفْعًا. قَالَ الطِّيبِيُّ: السُّؤَالُ وَقَعَ عَمَّا يَتَّصِلُ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنَ الْخِصَالِ دُونَ غَيْرِهَا؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ عَنْهَا دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْخِصَالِ”([2]).

وتخصيص الحديث الشريف إلقاء السلام وإطعام الطعام، بالذكر، يدل على فضلهما وأهميتهما. قال أبو الزناد: “فى هذا الحديثِ الحضُّ على المواساة واستجلاب قلوب الناس، بإطعام الطعام وبذل السلام؛ لأنه ليس شيء أجلب للمحبة وأثبت للمودة منهما”([3]).

والأصل في رسالة الإسلام أنها رسالة سلام للعالمين جميعًا، لا تَبتدِئ أحدًا بقتال، ولا تُكره أحدًا على الدخول فيها؛ فإن الله تعالى غني عن خلقه، ولا يرضى للإنسان أن يكون ظاهره غير باطنه، وإنما يريد منه أن يسلم الوجه والقلب والجوارح لله رب العالمين، عن قناعة تامة، وتسليم كامل؛ قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256).

قال ابن كثير: “أَيْ: لَا تُكْرِهُوا أَحَدًا عَلَى الدُّخُولِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ؛ فَإِنَّهُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ جَلِيٌّ دَلَائِلُهُ وَبَرَاهِينُهُ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكْرَهَ أَحَدٌ عَلَى الدُّخُولِ فِيهِ؛ بَلْ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ وَشَرَحَ صَدْرَهُ وَنَوَّرَ بَصِيرَتَهُ دَخَلَ فِيهِ عَلَى بَيِّنَةٍ، وَمَنْ أَعْمَى اللَّهُ قَلَبَهُ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُهُ الدُّخُولُ فِي الدِّينِ مُكْرَهًا مَقْسُورًا”([4]).

فهكذا رأينا “السلام”.. اسمًا من أسماء الله تعالى.. وتحيةً تَشيع بين المؤمنين.. وأمانًا بين الناس..

الرحمة .. للعالمين

و”الرحمة” من صفات الله تعالى ومن أسمائه، بل منها اشتُقّ اسمان له سبحانه، فهو “الرحمن الرحيم”. وهي غاية كبرى من غايات رسالة الإسلام، ومقصد أسمى من مقاصد بعثة النبي ؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). وفي هذه الآية الكريمة يخبر الله تعالى أنه قد “جَعَل مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، أَيْ: أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لَهُمْ كُلِّهِمْ؛ فَمَنْ قَبِل هَذِهِ الرحمةَ وشكَر هَذِهِ النعمةَ، سَعد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ رَدّها وَجَحَدَهَا خَسِرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ“([5]).

وفي الأحاديث النبوية أخبرنا النبي أنه رحمةٌ مُهدَاةٌ، وأن الراحمين يرحمهم الرحمن، وأن مَن لا يَرحم لا يُرحم، وأن الله تعالى قد أنزل إلى الأرض جزءًا من مائة جزء من رحمته، وبه تتراحم الخلائقُ “حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ” (متفق عليه).

فلهذه الدرجة، تمثل “الرحمة” قيمة مركزية من قيم الإسلام، ومقصدًا من مقاصده. وهذا الأمر له تجلياته، حتى في تشريعات الإسلام؛ فهي تشريعات مبنية على التيسير لا التشديد، وتندب إلى الرخص كما تدعو الى العزائم، وتقوم على رفع الحرج والمشقة عن المكلفين؛ وهذا كله مبنيّ على أساس ما يتصف به الإسلام من صفة الرحمة.

البركة .. للمتقين

وأما “البركة” فهي تعني النماء والزيادة. وتحية الإسلام بركات مضاعفة. وقد جعل الإسلام البركة ثمرة للإيمان والتقوى، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف: 96).

وكما أن الطاعة بركة في الرزق والعمر وفي سائر النعم، فإن المعصية تذهب بهذا كله، وتكون شؤمًا على صاحبها. قال ابن القيم: “المَعَاصِي تَمْحَقُ الْبَرَكَةَ؛ وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا: أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الْعُمُرِ، وَبَرَكَةَ الرِّزْقِ، وَبَرَكَةَ الْعِلْمِ، وَبَرَكَةَ الْعَمَلِ، وَبَرَكَةَ الطَّاعَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، فَلَا تَجِدُ أَقَلَّ بَرَكَةٍ فِي عُمُرِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِمَّنْ عَصَى اللهَ… وَلَيْسَتْ سَعَةُ الرِّزْقِ وَالْعَمَلِ بِكَثْرَتِهِ، وَلَا طُولُ الْعُمُرِ بِكَثْرَةِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَلَكِنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ وَطُولَ الْعُمُرِ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ”([6]).

ومعنى “البركة”- سواء المقرر في تحية الإسلام، أو في عموم التزام طاعة الله- يشير إلى أن عطاء الإسلام وثمرته تكون في الدنيا قبل الآخرة؛ فالإسلام يعد المؤمنين الحياة الطيبة والبركة في النعم كما يعدهم النجاة في الآخرة؛ قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52).

تحية الإسلام تعكس رسالته
السلام عليكم

خلاصة

إذن، رسالة الإسلام، وكما هي واضحة وموجزة في تحيته، هي:

رسالة سلام

تكفل الأمن والأمان، للمسلمين وللناس جميعًا؛ فلا اعتداء على الحرمات، ولا ابتداء بالعدوان. وذلك بخلاف ما يروّجه أعداء الإسلام عنه، وأيضًا بخلاف ما يشهد به التاريخ الذي يخبرنا ليس بسماحة المسلمين فحسب، بل بأن أرضهم وخيراتهم كثيرًا ما كانت نهبًا للطامعين وساحة للمعتدين.

رسالة رحمة

لبني الإنسان جميعًا، وحتى للطير والحيوان. والرحمة صفةٌ أساس من صفات الإسلام والمؤمنين؛ وهي تتضمن صفات أخرى من: الشفقة والرعاية، وبذل العون والمعروف، وكفِّ الأذى.

رسالة بركة

فهي أيضًا رسالة نماء وزيادة، وعمران وتعمير، ماديًّا ومعنويًّا.. لأن الإسلام دين للحياة وللآخرة على السواء، لا انفصام بينهما..

وما أجدرنا أن نفهم الإسلام ونلتزم به على هذا النحو.. وأن نبلّغه للناس بهذا التكامل والتراحم.. وأن نعمل على تحقيق عطائه في الحياة نفعًا للآخرين، ونماءً وبركةً للأبدان والقلوب..