يعد الدين جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان منذ أن خلقه الله تعالى، فالإنسان يشعر بحاجة دائمة إلى الخضوع لقوة أسمى منه يرتجي منها العون، ويلجأ إليها في الملمات، والله تعالى لم يترك عباده هملاً، بل علمهم كيفية عبادته والتقرب إليه من وقت خلق أبيهم آدم عليه السلام، ورغم أن الكثير من البشر ضلوا عن الصراط المستقيم، وانحرفوا في عبادتهم عن الله واتخذوا آلهة شتى، إلا أن أساس فكرة الدين بقيت حاضرة في مختلف المجتمعات الإنسانية، وبقي الناس يمارسون التدين بصورة أو بأخرى، استجابة للحاجة الفطرية إلى الدين والتي خلقها الله في نفوس عباده.
يقول الشيخ محمد عبده -رحمه الله- (ت. 1323ه): “كل إنسان – مهما علا فكره وقوي عقله، أو ضعفت فطنته وانحطت فطرته – يجد من نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته وقوة من أنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تصرفه وتصرف ما هو فيه من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرق إليها إرادة المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة، ومن عقلها أخرى”.
مفهوم التدين ومصادره
عند الحديث عن مفهوم التدين فلا بد من الإشارة إلى أنه مرتبط بمفهوم الدين، والدين له معان لغوية متعددة يمكن من خلالها فهم معنى التدين، فقد يأتي الدين بمعنى الجزاء، ومنه قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4]، أو بمعنى الحكم والسلطان، ومنه قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76]، أو بمعنى ما يتدين به الإنسان، يقال: دان بكذا، أي اتخذه ديناً وتعبد به، وهذا المعنى الأخير هو المراد من كلامنا في هذا المقال عن التدين.
أما في الاصطلاح العام لمفهوم التدين: فهو التمسك بعقيدة معينة، بحيث يلتزمها الإنسان في سلوكه، فيخضع لها، ويأخذ بتعاليمها، ويلتزم سُننها وهديها؛ وبالتأكيد فالناس ليسوا على درجة واحدة بل يتفاوتون في درجة تدينهم قوة وضعفاً، وهذه القوة أو الضعف إنما تكون مرتبطة بعوامل تؤثر فيها بصورة مباشرة وهي: النشأة، والبيئة، والتجارب والخبرات الشخصية.
فالأسرة التي يولد وينشأ فيها الإنسان لها الدور الأكبر في تقوية التدين لديه (ممارسة العبادات، الاقتداء المباشر بالوالدين…)، تليها البيئة الاجتماعية المحيطة بالإنسان (المدرسة، الأصدقاء، الحي…)، تليها التجارب الشخصية التي يخضع لها الإنسان في حياته (الفقد، المرض، الحروب…)، كلها عوامل جوهرية في تشكيل التدين في حياة الإنسان.
إلا أن كل ما سبق إنما يشكل التدين العام في حياة الإنسان والمتمثل بالعلاقة بينه وبين الله وأداء العبادات الرئيسية بالحد الأدنى من شروطها وأركانها التي تصح بها، ولا يستلزم بالضرورة امتلاكه المعرفة الدينية الكافية التي تؤهله للحكم على تصرفاته الشخصية، أو تصرفات من حوله وفق المنظور الديني، وعندها فلا بد له من البحث عن مصدر يستقي منه أحكام دينه على وجه التفصيل، ليصبح متعلماً أصول دينه بالحد الذي يسمح له بفهم النصوص الدينية، ومعرفة المصادر العلمية التي يمكنه الرجوع إليها كلما احتاج إلى حكم في مسألة حادثة.
إن كل ما سبق عندما نسقطه على الحالة الدينية في حياتنا كمسلمين نجد بأننا في الغالب نشأنا في أسر مسلمة، وترعرعنا في بيئة أقرب إلى التدين التقليدي، ومررنا بتجارب متفاوتة شكلت تصوراتنا الخاصة عن الدين ومركزيته في حياتنا، لكن ما المصادر الدينية التي اعتمدنا عليها أو يمكننا الاعتماد عليها للحصول على تعليم ديني صحيح؟ بحيث أن هذا التعليم يكسبنا فهماً صحيحاً لديننا، ويجعلنا نتعايش مع المجتمع بما فيه من مسلمين (يتفاوتون في درجة تدينهم)، أو ربما غير مسلمين يدينون بشرائع متعددة.
في السابق كانت مصادر تعلم الدين منحصرة إما في الجلوس إلى العلماء وتلقي العلم منهم مشافهةً، أو من خلال قراءة الكتب واستنباط العلوم والفوائد منها، والانتفاع بها، أما اليوم فقد ظهر مصدر ثالث لم يكن موجوداً من قبل وكان من المستحيل أن يخطر على بال أي عالم أو متعلم قبل بضع عشرة سنة من الآن، وهو التعلم عن بعد، عبر مواقع أو تطبيقات توفر العلم الشرعي للطالب دون أن يخرج من بيته، وقد تكون آلية التعلم إما مباشرة أو مسجلة، إلا أنها في النتيجة تصل للطالب دون أن يتعنى الذهاب إلى المسجد للقاء العلماء، أو فتح كتاب من كتب العلم لقراءة ما فيها.
التدين بثوب جديد
الذي أراه أن هذا المصدر الجديد من مصادر تعلم الدين قد ألبس الحالة الدينية عموماً والتدين الفردي خصوصاً ثوباً مختلفاً لم يكن من قبل، فرغم أن التعلم عن بعد قد جعل الوصول إلى العلم أسهل وأسرع إلا أنه أفقد العلم شيئاً جوهرياً طالما ارتبط به، وهو ما أسميه “روح العلم” تلك الروح المتمثلة بما كان يؤكد عليه علماء المسلمين على مر العصور السابقة إما بكتابات مستقلة أو ضمن كتاباتهم الشرعية العامة، وهو ما يسمونه “أدب العلم أو آداب العالم والمتعلم”.
تلك الآداب التي تمثل روح العلم وجوهره لا يمكن للمعلم مهما كان ماهراً أن يوصلها لطلابه من خلف الشاشات، ولا يمكن للطالب مهما كان حريصاً عليها أن يستقيها من معلمه عن بُعد، ذلك لأن تلك الآداب ليست تعليمات جوفاء تنتقل للطالب من خلال الحروف والكلمات، وإنما هي أشياء غير منطوقة تصدر من المعلم ويتلقفها الطالب لا شعورياً، فالطالب الذي يكون قريباً من معلمه ويرى حركاته وسكناته، يراه كيف يحمد الله ويسجد عند الفرح، وكيف يذكر الله ويستعيذ من الشيطان عند الغضب، ليس كالطالب الذي يسمع إرشادات من معلمه حول شكر النعم وضبط النفس عند الغضب، فيسجلها في قائمة معلوماته دون أن يراها من خلال نموذج يحتذي به.
كانت من عادة العلماء قديماً الرحلة في طلب العلم، وكانوا يعيبون على من لا يرحل من بلده ويلزم شيخاً واحداً يتعلم منه، ولما سئل الإمام أحمد (ت. 241ه) -رحمه الله- عن الطالب أيرحل أم يلزم بلده، قال: “بل يرحل ويُشام الناس (أهل العلم) ويتعلم منهم”، وقد فسر ابن الأثير (ت. 606ه) هذه الكلمة بقوله: “شاممت فلاناً إذا قاربته وتعرفت ما عنده بالاختبار والكشف”، أي أن طالب العلم ينبغي أن يتقرب من العلماء ويختبر علمهم وأدبهم عن قرب، وقد نقل الحافظ الذهبي (ت. 748ه) -رحمه الله- في “سير أعلام النبلاء” بسنده، قال: “كان يجتمع في مجلس أحمد -ابن حنبل- زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمسمائة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت”.
فالأدب شعور نفسي يكتسبه الطالب من مخالطة من يربيه، وليس علماً يكتسبه الإنسان من خلال القراءة والسماع فقط، لذلك فقد كان السلف يعيبون على من يقتصر في تعلمه على الكتب فقط، فما بالك بمن يقتصر على التعلم عن بُعد فقط من خلف الشاشات، دون أن يثني ركبه في حلقة علم، ولا يقلب صفحات كتاب، وهذا ما ولَّد نمطاً جديداً من التدين لم يكن موجوداً في العصور السابقة، وبالتالي جيلاً من “المتدينين الجدد”.
المتدينون الجدد
وقد يسأل سائل: ما المشكلة في هذا النوع من التدين، أو ما العيب في هؤلاء المتدينين الجدد؟
إن المشكلة تتمثل كما أسلفت في الانفكاك بين العلم وبين الأدب المرتبط به، فصار هذا المتدين لا يراعي حرمةً للعلم، ولا للعلماء، ويظن بأنه من خلال دورة شرعية حضرها عن بُعد صار أحد علماء الأمة، وصار من حقه الإجابة عن الفتاوى والخوض في قضايا الأمة التي يهابها كبار العلماء، وهو جالس خلف شاشته، فأصبحنا نرى من يتطاول على كتب السنة بدعوى أنه يريد تنقيتها مما فيها من أباطيل وهو لا يحسن تخريج حديث بصورة صحيحة، وصرنا نرى من يتطاول على أئمة الإسلام كالبخاري والنووي وابن حجر والسيوطي وغيرهم، بدعوى أن لديهم انحرافات في العقيدة أو في السلوك، وكل هذه المظاهر لم تكن من قبل بهذا المستوى من الجرأة وسوء الأدب، وما ذلك إلا لأن تناول العلم الشرعي أصبح سهلاً، والخوض في مسائله الدقيقة صار متاحاً للجميع من خلال وسائل التواصل الحديثة.
وكذلك بتنا نعيش حالة من التعصب المقيت للجماعة أو المذهب أو الشيخ، وتهجماً على كل مخالف، ورميه بشتى أنواع الشتائم والتهم بالضلال والانحراف، بل واتهامه بالخروج عن منهج علماء الأمة (الذي هو في الحقيقة منهج شيخه)، ولو أنك أتيت بهذا المهاجم وناقشته وجهاً لوجه لاكتشفت بأنه قد لا يحسن الخوض في مسائل الطهارة، ولا يفقه سوى ما تعلمه في دورته الشرعية (عن بُعد) حول تفسيق وتبديع علماء المسلمين قبل عوامهم لوقوعهم في أدنى شبهة.
هل هذا يعني أن تقديم الدورات الشرعية والمحاضرات عن بُعد يعد أمراً خاطئاً؟
بالتأكيد لا يمكنني القول بذلك، فوسائل التعليم الحديثة سهلت نشر العلم بين شريحة كبيرة من الناس لم تكن تستطيع الوصول إليه من قبل، لكنني أحذِّر من أمرين رئيسيين هما:
- الاقتصار على التعلم عن بُعد: ينبغي على كل من يقدم دورة شرعية أو محاضرة عن بُعد أن يؤكد لطلابه بأنها لا تغني عن مجالسة العلماء والتلقي منهم مباشرة، وأن يعودوا في كل مسألة تشكل عليهم إلى أهل العلم مباشرةً، وألا يكتفوا بطرح إشكالهم عبر إحدى المجموعات وانتظار الإجابة عليه.
- فتح الباب للجميع: ينبغي لمن ينظم أي دورة شرعية أو محاضرة عن بُعد أن يعرف الخلفية العلمية للمشاركين فيها، فليس من الصواب إتاحة المجال لجميع الناس وقد يكون فيهم من لا يحسن القراءة السليمة فضلاً عن أن يحسن فهم النصوص والمقارنة بينها، واستنباط الأحكام منها.
وبناءً على ما تقدم فإننا نجد أنفسنا أمام معادلة معقدة تتطلب توازناً دقيقاً بين الاستفادة من التقنيات الحديثة في نشر العلم الشرعي، وبين المحافظة على روح العلم وآدابه التي تشكل جوهر التكوين الديني السليم.
إن التعلم عن بُعد ليس شراً محضاً كما أنه ليس خيراً خالصاً، بل هو وسيلة تحمل في طياتها فرصاً عظيمة ومخاطر جسيمة، والحكمة تقتضي منا أن نستثمر إيجابياتها في توسيع دائرة المستفيدين من العلم الشرعي، خاصة لمن تحول ظروفهم دون الوصول إلى مجالس العلماء، مع الحذر الشديد من مخاطرها المتمثلة في تفريغ العلم من محتواه الأخلاقي والتربوي.
إن الأجيال القادمة ستحتاج إلى نموذج تعليمي هجين يجمع بين سهولة الوصول للمعلومة التي توفرها التقنية الحديثة، وبين عمق التربية والتكوين الأخلاقي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال المخالطة المباشرة للعلماء الربانيين، فالعلم الشرعي ليس مجرد معلومات تُنقل، بل منهج حياة يُعاش، وأخلاق تُكتسب، وآداب تُتلقى بالممارسة والقدوة.
وأخيراً، فإن مسؤولية تقويم مسار التدين المعاصر لا تقع على عاتق العلماء والدعاة وحدهم، بل هي مسؤولية جماعية تتطلب من كل فرد في المجتمع أن يكون واعياً لخطورة الأمر، وأن يسعى جاهداً للتعلم من مصادره الصحيحة، كما قال محمد بن سيرين رحمه الله (ت. 110ه): “إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم”.
كما يجب على كل من أراد أن يتعلم أمور دينه أن يتحلى بالتواضع اللازم الذي يجعله يعرف حدود علمه، فيقف عندها ولا يتجاوزها إلى ما ليس من اختصاصه، وذلك لأن الدين الحق يحتاج إلى متدينين حقيقيين، لا إلى متدينين افتراضيين يختبئون خلف الشاشات ويتجرؤون على ما لا يجرؤ عليه الراسخون في العلم، فالمتدين الحقيقي هو من تشربت روحه آداب العلم قبل علومه، وتهذبت أخلاقه قبل أن تتسع معارفه، وعرف قدر نفسه فوقف عند حدودها، وأدرك عظمة العلماء فاحترم مقامهم وتأدب معهم.
أما المتدين الافتراضي فهو من اكتفى بالمعلومات دون التربية، وحصَّل المعارف دون الأخلاق، وظن أن العلم مجرد نصوص تُحفظ لا حكمة تُستوعب، فصار كمن يحمل سيفاً وهو لا يحسن استعماله، فيضر به نفسه وغيره أكثر مما ينفع.
إن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى علماء ربانيين ومتعلمين متأدبين، يجمعون بين صحة المعتقد وجمال الخلق، وبين سعة العلم وعمق التواضع، وبين قوة الحجة ولين الجانب، هؤلاء هم من سيحملون راية الدين في هذا العصر، ويكونون قدوة للأجيال القادمة في كيفية التعامل مع تحديات الزمان دون التفريط في ثوابت الدين أو آدابه المرعية.