تشريع صيام عاشوراء مسألة بالغة الأهمية، حيث يكثر الطعن في أحاديث صيام يوم عاشوراء من أكثر من جهة: الجهة الأولى: التي تطعن في الأحاديث ذاتها؛ رغم صحتها، وترى أن الأحاديث من وضع بني أمية خاصة أن بعض الأحاديث والآثار وردت عن عائشة و معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما. الجهة الثانية: الطعن في سنية صوم يوم عرفة، وأن صيامه جائز لما ورد:” فمن شاء صام ومن شاء ترك”. وبيان ذلك ما يلي:
تحديد يوم عاشوراء
بالنسبة لتشريع صيام عاشوراء، طعن البعض في أن يكون يوم عاشوراء هو العاشر من المحرم، مستدلين على ذلك بأن تقويم اليهود ليس التقويم الهجري الذي يبنى على الأهلة، وقد حدد النبي ﷺ يوم عاشوراء بأنه العاشر من شهر المحرم، كما ورد في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ” أمر رسول الله ﷺ بصوم عاشوراء : يوم العاشر “، وهو نص يجب الصيرورة إليه، سواء أكانت لفظة ( يوم العاشر) هي جزء من الحديث النبوي، أو هي حتى تفسير من ابن عباس – رضي الله عنهما-، فالتحديد بهذا وحي؛ يحرم مخالفة تفسيره؛ ذلك أن دلالة الأعداد في الشريعة- غالبها- دلالة قطعية لا تحتمل التأويل، لا سيما الأعداد المفردة.
تاريخية صيام يوم عاشوراء
ثبت بالأحاديث الصحيحة في مسألة تشريع صيام عاشوراء أن صوم يوم عاشوراء كان فرضا قبل نزول حكم شهر رمضان، كما ورد في الصحيحين وغيرهما عن عائشة – رضي الله عنها -: قالت: «كان عاشوراء يصام قبل رمضان، فلما نزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر» .
بقاء صوم عاشوراء
وصيام عاشوراء فرضا لم يبتدئ في المدينة، وإنما ابتدأ في مكة، ثم استمر الرسول – ﷺ- والمسلمون على صيامه فرضا؛ حتى السنة الثانية من الهجرة؛ حين نزل الأمر بصيام شهر رمضان، كما في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة: 185]
ولهذا قالت عائشة كما في الصحيحين: «كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -ﷺ- يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه، وأمر [ص:306] بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه .
وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: «أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله – ﷺ- صامه والمسلمون قبل أن يفرض رمضان، فلما افترض رمضان قال رسول الله -ﷺ-: إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه».
فدلت الأحاديث عن أن فرضية صيام عاشوراء كانت في العهد المكي وسنتين من العهد المدني، وانقطعت الفرضية بصيام شهر رمضان.
انتقال صوم عاشوراء من الفرضية إلى الاستحباب
فلما انقطع المسلمون عن صيام عاشوراء فرضا، ورأى النبي ﷺ اليهود تصومه؛ فأمر بصيامه تطوعا وليس فرضا، كما ورد في عدد من الأحاديث، منها:
ما ورد في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه -: قال: «كان يوم عاشوراء يوما تعظمه اليهود، وتتخذه عيدا، فقال رسول الله – ﷺ-: صوموه أنتم» .
وفي رواية: «كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، فقال رسول الله – ﷺ-: فصوموه أنتم» .
وفي الصحيحين أيضا وعند أبي داود عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما -: قال: «قدم رسول الله – ﷺ- المدينة، فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: [هذا] يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه، فقال: أنا أحق بموسى [منكم] ، فصامه – ﷺ- وأمر بصيامه» . وفي أخرى بنحو ذلك، وفيه: «فنحن نصومه تعظيما له» .
والأمر هنا من النبي ﷺ ليس معناه الوجوب، وإنما معناه الاستحباب، وبينت إحدى الروايات علة الصيام بقوله ﷺ:” فنحن نصومه تعظيما له”.
وعند البخاري ومسلم والنسائي عن عبيد الله بن أبي يزيد: أنه سمع ابن عباس، وسئل عن صيام يوم عاشوراء؟ فقال: «ما علمت [أن] رسول الله -ﷺ- صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهرا إلا هذا الشهر – يعني: رمضان -» .
وفي حديث عبيد الله بن موسى [عن ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد] «ما رأيت النبي – ﷺ- يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم: يوم عاشوراء، وهذا الشهر – يعني شهر رمضان» وتحري الفضل يدل على الاستحباب. ومما يدل على أن صيام يوم عاشوراء مستحب ما ورد في فضل صيامه، كما ورد في سنن الترمذي من حديث أبي قتادة الأنصاري – رضي الله عنه -: أن النبي – ﷺ- قال: «صيام يوم عاشوراء: إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله»
ومما هو مقرر في الأصول أن ذكر الثواب على العمل؛ دليل على استحبابه وسنيته.
كما أنه ليس من المعهود في التشريع أن ترك الفرض لا ينزل إلى الإباحة غالبا، وإنما ينزل من الفرض إلى المستحب.
استمرار الصحابة في صيام يوم عاشوراء
وورد عن الصحابة استمرار صيام يوم عاشوراء، كما ورد عن قيس بن سعد بن عبادة – رضي الله عنه -: قال: «كنا نصوم عاشوراء، ونؤدي زكاة الفطر، فلما نزل رمضان، ونزلت الزكاة: لم نؤمر به، ولم ننه عنه، وكنا نفعله» . أخرجه النسائي
بل ورد حرص الصحابة على التذكير بصيامه، كما فعل عمر وغيره،
فعن مالك بن أنس – رحمه الله -: بلغه: «أن عمر بن الخطاب أرسل إلى الحارث بن هشام: أن غدا يوم عاشوراء، فصم وأمر أهلك أن يصوموا» . أخرجه الموطأ.
وهذا دليل على استحباب صوم يوم عاشوراء، وأن الصحابة استمروا في صيامه حتى بعد وفاة النبيﷺ، وأنهم كانوا يتعاهدونه.
الإجماع على الاستحباب
بل نقل عن الإمام النووي – رحمه الله- القول بأن صوم عاشوراء مستحب،
كما ورد في المجموع شرح المهذب (6/ 383): ” وأجمع المسلمون على أنه اليوم ليس بواجب وأنه سنة”.
أحاديث ترك صيام عاشوراء مطلقا
وردت بعض الأحاديث والآثار التي يفهم منها ترك صيام عاشوراء مطلقا، من ذلك:
ما ورد في البخاري: «صام رسول الله – ﷺ- عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك، وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه»
وما ورد في الصحيحين عن علقمة بن قيس النخعي: «أن الأشعث بن قيس دخل على عبد الله [بن مسعود] وهو يطعم يوم عاشوراء، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن اليوم يوم عاشوراء، فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان، فلما نزل رمضان ترك، فإن كنت مفطرا فاطعم» .
وله في أخرى مختصرا قال: «دخل الأشعث على عبد الله يوم عاشوراء فقال: ادن فكل، فقال: إني صائم، قال: كنا نصومه، ثم ترك»
وغالب هذه الأحاديث واردة عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه- وهي تدل على أمرين:
الأول: ترك فرضية صيام عاشوراء، ويدل عليها الأحاديث السابقة :” فمن شاء صام ومن شاء ترك”.
الثاني: أن الصحابة – رضوان الله عليهم- لم يكن كلهم يصومون النافلة، خاصة ابن مسعود – رضي الله عنه- فقد كان مشتهرا عنه أنه لا يصوم النافلة؛ لضعف في بدنه.
كما ورد في مجمع الزوائد، 2/257: عن عبد الله بن مسعود أنه كان لا يكاد يصوم وقال: إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة أحب إلي من الصيام، فان صام صام ثلاثة أيام من الشهر. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح … وعن أبي عبيدة عن أمه قالت: ما رأيت عبد الله صائما قط إلا يومين إلا رمضان. قال: لا أدري ما شأن ذينك اليومين. رواه الطبراني وفيه من لم يسم. وعن الشعبي عن عمه قال: اختلفت إلى ابن مسعود سنة فما رأيته صائما قط إلا في …
فدلت تلك الآثار أن ترك صيام عاشوراء هو اختيار ابن مسعود – رضي الله عنه- الذي كان لا يصوم النافلة وينشغل عن صيام النافلة بالصلاة وقراءة القرآن وطلب العلم، لكن هذا ليس المعهود عن الصحابة – رضوان الله عليهم-.