يُنظر للفيلسوف الفرنسي “رينيه ديكارت” ( 1596-1650م) بأنه “أبو الفلسفة الحديثة” فقد شغلت أفكاره ومنهجه الغرب لقرون، وكانت الأرضية التي قامت عليها الكثير من الفلسفات والمذاهب والأفكار، فالرجل لم يكن شيئا عابرا في تاريخ الفكر، ولكن كانت له بصمته الكبيرة والممتدة، إذ كان يمتلك آمالا عظيمة أن تحل فلسفته محل فلسفة “أرسطو” التي ظلت سائدة في أوروبا طيلة عشرة قرون.
ويبقى السؤال هل كان “ديكارت” مخلصا لمنهجه في الشك؟ وهل استخدم منهجية الشك في العقائد؟ وهل كانت فرضيته “أنا أفكر..إذن أنا موجود” والتي أطلق عليها “الكوجيتو” [1]Le Cogito أو الذات المفكرة، قادرة على حل كثير من مشكلات الفلسفة والحياة؟ وهل تجاوز العقلُ المعاصر الشكَ الديكارتي ليبحث عن اليقين الميتافيزيقي في ظل تنامي العلوم والمعارف الإنسانية، والتي باتت تطرح أسئلتها الوجودية على الإنسان، وتذكره باليقين المفقود، مع تصاعد الغرور والزهو بالعلم؟
في هذا الإطار يأتي صدور العدد الـ(24) من مجلة “الاستغراب” صيف 2021، في (344) صفحة، ليطرح ملفا بعنوان “ديكارت: الفيلسوف المسكون في كهف الشك” يقترب الملف من “ديكارت” و”الديكارتية” ومنهجية الشك، والموقف الديكارتي من اللاهوت والدين.
الشك هو اليقين
استهل “ديكارت” منهجه بمقولة “أنا أفكر، إذن أنا موجود” زاعما أنه أنشأ أو قضية يقينية، وكان يقول: ” لا مجال للاعتراض على حججي”، فحاول أن يعبر إلى “اليقين في سفينة الشك”، لكنه استطاع أن يشكل قطعا مع الفلسفة الأرسطية في كثير من مسلماتها وتساؤلاتها، ناقلا العقل والفلسفة الغربية إلى مجال جديد كانت “الأنا” حاضرة فيه بقوة، فالوجود لا يُرى إلى من خلالها، لذا كان الوجود اليقيني الأوّل في الديكارتية هو “الأنا” المدركة ولا سواها، وبذلك نقل الفلسفة وسؤالها، وكذلك نظرية المعرفة من الحقائق المُشاهدة إلى أن تصبح تصورات ذهنية بمنهجية صارمة، وبالتالي أصبح دور ومكانة العقل حاسما في الفلسفة الديكارتية، فالذهن الذي تربَّع على عرش التفكير عند ديكارت، باعتبراه العقل الوحيد الذي ينبغي أن يحصِّل الحقائق الواقعيّة، غير أن ذلك التحول الكبير أسس في العقل الغربي لأزماته الممتدة، ولعل أهمها تأسيسه لفكرة سيادة العقل فقط، وكذلك التأسيس “للفردانية”.
والحقيقة أن النّظر إلى “العقل ” أنه مستكفي بذاته في الديكارتية، أسس لمسار الاكتفاء بالعقل، وكان أخطر ما فيه هو أن الإنسان أصبح مستغنيا عن ربه، غير مُحتاج إليه، لا في معرفة الخالق أو معرفة الوجود أو الوعي بالذات، ورغم أن “ديكارت” كان “شديد الإيمان” بكاثوليكيته، إلا أن توظيفات المنهج الديكارتي أسست لمسار الاكتفاء بالعقل، ، فعمل “ديكارت” من خلال التحليل الميكانيكيّ للعالم والإنسان بواسطة العقل الرياضيّ، إلى تأويل مفهوم وتعريف الإنسان، وشكّل ذلك أساسًا للتفكير الفلسفيّ بعده، وبسطت هذه الرؤية الجديدة على العالم والإنسان.
وحسب مقالة “محمود حيدر” فإن ” مبعثُ الضلالة التأسيسيّة لـ الأنا الديكارتيّة” يتأتَّى من افتراضها أنّها هي سبب نفسها، وأنّها مكتفيةٌ بذاتها ولا حاجة لمبدأٍ يؤسِّسُها. ويمكن أن نمضي إلى أبعد من ذلك لنقول إنّها واجدةُ نفسها ” وتسببت تلك الرؤية الديكارتية في مشكلات كبرى: لعل أبرزها أن صار الوجود حالة ذهنية، بعدما صار الشك واسطةٍ لتقطير جميع القضايا التي نشكُّ بها منطقيّاً، وذلك بغية تحصيل المعارف التي لا يرقى إليها الشك.
كان معيار الصدق عند ديكارت هو ما يحدده العقل الرياضي، بعدما وصل إليه هذا العقل ويراه واضحاً ومتميّزاً بعد تفكيرٍ منظّمٍ ومدروسٍ، فالمنهج الوحيد لبلوغ المعرفة الصّحيحة هو منهج الرياضيات الاستنباطي، لكن المتعمق في المنهج الديكارتي، سيكتشف أن ديكارت لم يقطع مع المنهج الأرسطي التي شكل المعرفة والفلسفة طوال قرون طويلة في أوروبا.
بين الغموض والتناقض
حسب دراسة “محمد عثمان الخشت” فإن ديكارت “قدَّم فلسفة ملتبسة غائمة تفتقد في أغلبها إلى الوضوح المنطقيّ، فجعل وجود الله مرهونًا ببداهة الأفكار الواضحة المتميّزة، ورغم أنه أعلن أنّ الهدف من فلسفته هو أن يضع الإنسان أمام عالم يقدّمه العلم وقوانينه، فإنه قدَّم عالمًا تدعمه الرؤى الإيمانيّة، ولم يستطع أن يتفادى تلك الرؤية اللاهوتيّة للعالم التي سادت العصور الوسطى التي كانت تنظر للعالم على أنّه مزيج من فعل الإنسان وفعل الله؛ لأنّه لا تعارض عندهم بين العالمين”.
وقد أحدثت الثنائية الديكارتية انشقاقا في الوعي الأوروبي، وقد وصف تلك الحالة الفيلسوف “راسل” بقوله” في بدايته أشبه بفم تمساح مفتوح، فكّ إلى أعلى وهو العقلانيّة، وفكّ إلى أسفل وهو التجريبيّة”، فالثنائية والغموض كانا متجليين في الديكارتية، فكان هناك حضور كبير للإيمان الكاثوليكي، والشيطان، وعدم مناقشة العقائد، إذ استثنى من شكه المجال الديني والأخلاقي والاجتماعي والسياسي، متدثرا بروح شديدة المهادنة، التي يرجعها البعض إلى خشيته من الصدام مع الكنيسة ورجال الدين الأقوياء، حتى لا يُتهم بالإلحاد، فتتعرض حياته للخطر، وهناك من يرى أن ديكارت لجأ لهذه الثنائية رجاء أن تقتنع الكنيسة بآرائه فتقلع عن فلسفة “أرسطو” ووتبنى منهجه، لكن أيا كانت النوايا فديكارت لم يكن معاديا للدين، أو نافيا لوجود الخالق، وكما وصفه البعض:” كان لاهوتيًّا خالصًا قدّم الإيمان على العقل، جعل الفلسفة في خدمة اللاهوت، وجعل مهمّة العقل مهمّة تبريريّة إقناعيّة محضة في ضوء الإيمان الباحث عن العقل لتبريره وتسويغه”.
لكن هناك من يذهب أن المنهج الرياضي الذي استند إليه “ديكارت” في شكه، تصدع مبكرا وتحديدا عام 1687م عندما أصدر “إسحق نيوتن كتابه ” المبادئ الرياضيّة للفلسفة الطبيعيّة” أي بعد ثلاثين عام فقط، حيث صاغ فيه “نيوتن” قوانين الحركة، لذلك قال فولتير في رسالته الرابعة عشر “ومات هادمُ النظام الديكارتي، نيوتن المشهور” ثم قال في نفس المقالة:” ولا أنكر أنَّ جميع كتب مسيو ديكارت الأخرى زاخرة بالأغاليط”.
[1] الكوجيتو لفظ يوناني بمعنى “أفكّر” استخدمه الفيلسوف “ديكارت” في مقولته الشهيرة “أنا أفكّر إذن أنا موجود”، ومعناها إثبات وجود النفس من جهة كونها موجودا مفكّرا والاستدلال على وجودها بفعلها المتمثّل في الفكر.