تصاعدت في الآونة الأخيرة وتيرة المطالبة بـ تطوير الخطاب الديني ، وهذا أمر يحتاج إلى إيضاح، وتفسير مؤسس على تدقيق معرفي في تحديد المصطلحات ورسم الأهداف والمآلات؛ حتى تتضح الرؤية في هذا الأمر .
لم يكن جديدًا على الأسماع تناول هذه القضية أو احتدام النقاش حولها، فما كتب وقيل وسيقال حولها كثير… وهذا لا يقلل من أي جهد تناول هذا الأمر .
بداية كان هذا مهاد معرفي يرسم لنا خريطة بسيطة لتناول تلك القضية، فهي رغم تشعبها إلا أنه يمكن حسم الأمر فيها بصورة موضوعية ودقيقة، فالقضية لا تتعلق بتطوير الخطاب الديني فحسب، وإنما تمتد بصورة مباشرة إلى أعماق التراث الذي هو ثمرة جهود علمائنا الأجلاء.
الحقيقة ” إن علماء الإسلام قد خلفوا لنا تراثًا علميًا ضخمًا، متعدد المناحي، وما يزال معظم هذا التراث مخطوطًا لم ير النور، ولم يتعرف عليه الباحثون، رغم ما فيه من المعاني الدقيقة والأفكار العميقة التي تخدم واقعنا المعاصر وتنير السبل لأمتنا في مجالات الفكر والتشريع والثقافة، يقدر بعض الخبراء ما بقي مخطوطًا من تراث علماء الإسلام بما يربو على ثلاثة ملايين عنوان، تقبع في زوايا المكتبات، وظلام الصناديق والأقبية، حتى إن بعضها لم يُفهرس فهرسة دقيقة فضلًا عن النشر، فكان من المهم في هذه المرحلة أن تتجه الجهود لتقويم هذا التراث واستجلاء ما ينفع الناس منه في عصرنا، ثم العمل على تحقيقه ونشره”.(1)
الأهمية البحثية
إن تراث أي أمة هو عنوان أصالتها ومجد حضارتها، وهو بالضرورة يرسم صورة المستبقل، لهذا فإن قضية التطوير التي نحن بصددها ليست جديدة في طرحها أو تناولها، فقد تناقلها علماء الأمة منذ فترات عديدة خصيصًا في العصر الحديث، تحت مسميات مختلفة كالتجديد والإصلاح ، أمثال: “جمال الدين الأفغاني” و”محمد عبده” و”محمد رشيد رضا“، وغيرهم كثيرين… كل هؤلاء العلماء لهم جهودهم ومناهجهم المتنوعة في هذا الصدد الذي يحتاج إلى بسط بصورة كبيرة في أماكن أخرى ، ليس هذا محلها .
الهدف البحثي
إن الذي نريد بحثه والوقوف عليه في هذه الورقة هي قضية ” تطوير الخطاب الديني”، ليس قضية التجديد بصورة مطلقة، وقبل ذلك فإن ضبط المصطلحات يحدد لنا الهدف الذي نريد الوصول إليه، فثمة فارق بين تجديد الدين وتجديد الخطاب الديني، كذلك بين تطوير الدين وتطوير الخطاب الديني.. فالأولى تعني التدخل في النصوص التي لا يجوز التدخل في متنها ( القرآن – السنة النبوية الصحيحة)، أما الثانية فتعني النقاش والتحاور حول مفهومات تلك النصوص، وهذا محل الشاهد في القضية .
الإشكالية البحثية
إن السؤال المطروح في هذه الورقة والذي ينهض النقاش حوله، هو ضبط مسالة المقصود بـ” تطوير الخطاب الديني “، وكيفية تحقيق ذلك.. هذا لا يكون إلا بتحرير المصطلحات ورسم صورة واضحة حول هذه القضية ومنطلقاتها، وكيف يتم التأسيس لها ،حتى لا يحدث خلط أو تداخل بين الأمور .
منهج الدراسة
تقوم هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي القائم على رصد الظاهرة وتعقبها طبق رؤية تتعلق بكيفية الاستدال وفق المنهج الذي رسمه القرآن والسنة النبوية في تأسيس المسائل والأحكام، خصوصًا المسائل المتعلقة بالتطوير والتجديد.
تقسيم البحث
- أولًا: مفهوم تطوير الخطاب الديني
- ثانيًا: بواعث تطوير الخطاب الديني
- لماذا تطوير الخطاب الديني ؟
- أهداف تطوير الخطاب الديني
- كيف يمكننا تطوير الخطاب الديني؟
- الخاتمة والتوصيات
- المصادر والمراجع
- الفهرس
أولًا: مفهوم تطوير الخطاب الديني
يقول ابن فارس : ” الطاء والواو والراء أصل صحيح يدل على معنى واحد، وهو الامتداد في شيء من مكان أو زمان، من ذلك طوار الدار هو الذي يمتد معها من فنائها، لذلك [يقال] عدا طوره، أي جاز الحد الذي هو له من داره. ثم استعير ذلك في كل شيء يتعدى. والطور: جبل، فيجوز أن يكون اسما علما موضوعا، ويجوز أن يكون سمي بذلك لما فيه من امتداد طولا وعرضا. ومن الباب قولهم: فعل ذلك طورا بعد طور، فهذا هو الذي ذكرناه من الزمان، كأنه فعله مدة بعد مدة. وقولهم للوحشي من الطير وغيرها: طوري وطوراني، فهو من هذا، كأنه توحش فعدا الطور، أي تباعد عن حد الأنيس”(2).
هكذا يرصد لنا ابن فارس الدلالة اللغوية للجذر اللغوي طور، وأنها تعني الأمتداد، وهو بهذا يؤكد لنا إن قضية التطوير يحتاجها كل عصر بما يناسبة، ويتوافق مع المقتضيات التي يفرزها الواقع، وفي هذا فإن ” قيمة العالم تتجلي في معرفته بالشواهد واستخراجه لها من الكلام الفصيح واستحضاره إياها عند الحاجة “(3)، كما نؤسس ونقول الآن في قضية تطور الخطاب الديني.
ويرى أستاذنا “أحمد مختار عمر”: أن التطوير هو التغيير من حال إلى حال أفضل، وهذا يتوافق مع حالة الدين والعقل، فـ ” طور يطور، تطويرا، فهو مطور، والمفعول مطور، طور المصنع: عدله وحسنه، ونقله من حال إلى حال أفضل “طور أسلحته- طور الوزير المستشفيات- سعت الدولة بجهود مكثفة لتطوير التعليم”(3)
هذه حقيقة مؤكدة بالنصوص الشرعية والبراهين العلقية، فالإسلام نصوصه مطورة ذاتيًا وهذا من ديناميكته الخالدة، والعقل دائمًا يتطلع إلى الأفضل، وهذا أساس عملية التطوير التي ننشدها، وهذا يستطيع إدركه نبهاء الناس، والمحققين من العلماء والمجددون، ” وقد ألمح “عبدالقاهر الجرجاني” إلى ضرورة أن يتسم طالب التحقيق بإمعان النظر وتقصي الشواهد وعدم الاقتصار على أمثلة تذكر ونظائر تعد ” (4)
فحقيقة التطوير ليست مجرد سياق نصوص ووقائع تدل على أن الإسلام متطور، وإنما عملية قراءة للنصوص وكيفية الاستشهاد بها ، وهذا يعني ” إعادة إنتاج للنص المستشهد به” ، بمعنى أن الأستشهاد يصبح تناصيًا حين يعمد المؤلف إلى تضمين أجناس شاهدة في حقول معرفية متنوعة يبثها في ثنايا مؤلفه، هذه الشواهد إما مؤسسة لمضامين قديمة فهي عبارة عن إثباتات، وإما مؤسسة لأخرى جديدة سواءً استخلصها المؤلف بتأويل أو قراءة إبداعية مستكشفة ومستنبطة من خلال تأمل الشواهد ، أو استخراجها المتلقي فهي بين الإثبات والتمثيل ” (5).
هكذا يمكننا القول إن تطوير الخطاب الديني هو الانتقال به من حالة كانت مناسبة لمرحلة معينة أو حقبة معينة إلى حالة أخرى تناسب المرحلة الآنية أو الحالية، هذا لا يقدح في التأويل أو التفسير القديم للنص، إنما هذا التفسير والتأويل كان مناسبًا لمعطيات تلك الفترة، والواقع يتغير، والفتوى تتغير بتغير الواقع، ويكون هناك حسن لأنزال تلك الفتوى على الواقع الجديد.
هذا أمر.. الأمر الآخر أن الكلام لا يتناول قضايا المعتقدات الراخسة والثابتة أو الأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وإنما نحن نتحرك في المساحة المسموح بها شرعًا، مساحة الاجتهاد، مسائل الفروع جلها اجتهاد، كذلك بعض قضايا الاعتقاد يتطرق إليها الاجتهاد .
إذا أردنا أن نفض الاشتباك بين تطوير الخطاب الديني وغيره من المصطلحات كالتجديد، نجد أن ” التجديد: إرجاع الشيء إلى الحالة الأولى التي كان عليها قبل أن يصبح قديمًا، وكلمة تجديد مأخوذة من الفعل تجدد، يقال تجدد أي صار جديدًا “(6)
إن ابن منظور ألمح إلى معنى في غاية الأهمية والدقة عندما قال إن ” التجديد إرجاع الشيء إلى الحالة الأولى التي كان عليها قبل أن يصبح قديمًا”(7)
فهذا المعنى مأخوذ مباشرة من معاني شرعية وبالتحديد :” لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”(8)، فهذا كلام منسوب للإمام مالك – رحمه الله -، والتجديد هنا هو: إرجاع الخطاب الديني للحالة التي كان عليها في حالة قوته، وهذه الحالة هي القرون الأولى أي حالة القوة والريادة والسيادة،”هذا العنوان جملة-لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها- إن لم تكن من كلام النبوة فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، وومضة من إشراقها.
والأمة المشار إليها في هذه الجملة أمة محمد – صلى الله عليه وآله وسلم – ، وصلاح أول هذه الأمة شيء ضربت به الأمثال، وقدمت عليه البراهين، وقام غائبه مقام العيان، وخلدته بطون التاريخ، واعترف به الموافق والمخالف، ولهج به الراضي والساخط، وسجلته الأرض والسماء؛ فلو نطقت به الأرض لأخبرت أنها لم تشهد منذ دحدحها الله أمة أقوم على الحق وأهدى به من أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها مجموعة من بني آدم اتحدت سرائرها وظواهرها على الخير مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ دحدحها الله قوماً بدؤوا في إقامة قانون العدل بأنفسهم، وفي إقامة شرعة الإحسان بغيرهم مثل أول هذه الأمة، ولم تشهد منذ أنزل الله إليها آدم وعمرها بذريته مثالاً صحيحاً للإنسانية الكاملة حتى شهدته في أول هذه الأمة، ولم تشهد أمة وحدت الله فاتحدت قواها على الخير قبل هذه الطبقة الأولى من هذه الأمة”(9)
كما توجد إلتفاتة أخرى جميلة في كلام ابن منظور- رحمه الله -، فهو دائمًا يؤسس معانيه اللغوية على نصوص شرعية من القرآن والسنة النبوية ، وهذا مطرد في كتابه لسان العرب .
يقول أستاذنا ” أحمد مختار عمر ” جدد يجدد، تجديدا، فهو مجدد، والمفعول مجدد (للمتعدي)، جدد الأديب: (دب) جاء بالجديد وأبدع وابتكر … ، جدد الشيء: صيره جديدا حديثا “جدد هواء الغرفة/ أثاث بيته، جددت الحكومة قطاع السكك الحديدية، جدد أسلوبه الروائي” جدد أحزانه: أثار شجونه.
• جددوا انتخاب الرئيس: أعادوه، جدد الشرب: استأنفه، خاطبته مجددا في القضية: مرة أخرى.”(10)
إن تقصي هذه الدلالة “المعجمية يمنح للكلمة حضورها في نظام اللغة العربية، فهي محض تعددٍ في معانيها واستعمالاتها وإن بدا الأصل واحدا، والوقوف عليها متأسس على معرفة قبلية بحمولة المفردة اصطلاحيا “(11)
أما الخطاب، فيقول ابن فارس :”الخاء والطاء والباء أصلان: أحدهما الكلام بين اثنين، يقال خاطبه يخاطبه خطابا، والخطبة من ذلك. وفي النكاح الطلب أن يزوج، قال الله تعالى: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} [البقرة: 235] .
والخطبة: الكلام المخطوب به. ويقال اختطب القوم فلانا، إذا دعوه إلى تزوج صاحبتهم. والخطب: الأمر يقع؛ وسمي بذلك لما يقع فيه من التخاطب والمراجعة.(12)
وعلى ذلك أسس علماء الشريعة التعريف الاصطلاحي الخاص بتجديد الخطاب الديني، ومن ذلك يقول الإمام “السيوطي” : “إن المراد بتجديد الدين، تجديد هدايته وبيان حقيقته وأحقيته ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلو فيه، أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق وسنن الاجتماع والعمران في شريعته.”(13)
وعرفه العلقمي بقوله “معنى التجديد: إحياء ما اندرس من العمل من الكتاب والسنة و الأمر بمقتضاهما”(14)
هكذا نجد أن الخطاب في أساسه قائم على المحاورة ، وتجاذب طرفي الكلام بين فريقين أو طرفين، ومن ذلك فإن تجديد أو تطوير الخطاب الديني ناتج عن ” نزوع نحو الخلق والإبداع ، غايته الإتيان بأشكال جديدة، تختلف عن الأشكال القديمة ،غير أن هذا الخلق والإبداع لا يمكن أن ينطلق من فراغ؛ لأن التجديد لا يعني الابتكار الخالص أو التغير الشامل، ولعلنا نخطئ كل الخطأ إذا فهمنا التجديد على هذا النحو الذي يغيب فيه التفاعل بين الماضي والحاضر، فالتجديد إنما هو بناء يستند إلى أعمال تراثية سابقة تشكل له الأرضية التي يتكئ عليها انطلاقا من أن “القديم يسبق الجديد… والتراث هو الوسيلة والتجديد هو الغاية”؛ فالتجديد ليس بالثورة الهدامة التي تنقطع معها أوائح التواصل بين الماضي والحاضر، إنما هو بناء واستمرارية يجمع بين الأصالة والجدة من خلال ما يضفيه [المجدد] من الإبداع والابتكار على أصول قديمة، بهدف التغير والمواءمة مع المعطيات الحياتية الجديدة “(15)
وفي الأمور الشرعية يكون واقعًا على الشكل وليس المضمون فالمضمون ثابت منذ بعثة النبي – ﷺ -، بخلاف الأعمال والنصوص الإبداعية التي من أنتاج البشر فإن التجديد والتطوير فيها يقع على الشكل والمضمون طبقًا لأختلاف العصور والسياقات الاجتماعية والثقافية والأنساق المعرفية .
ثانيًا: بواعث تطوير الخطاب الديني
إن بواعث تطوير الخطاب الديني ضرورية وملحة، ومدعومة بنصوص شرعية صحيحة وثابتة كما جاء عن النبي – ﷺ -:” إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا “(16)
قال المناوي :” “يجدد لها دينها:أي يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذلهم”(17)
إن قضية تطوير الخطاب الديني وفق رؤية الأمة نحن في حاجة ماسة إليها؛ كي نستطيع التفاعل مع التحديات من حولنا، والتجاوب مع العالم المحيط بنا، وإلا فنحن كمن بيده جوهرة ثمينة ؛ لكنه يدسها في التراب بدلا من أن يقتني لها أفضل الأماكن ليعرضها فيه، هذا مثل الخطاب الديني يحتاج منا إلى جهد كبير حتى يمكن مواكبة العصر الذي نعيشه.
بواعث هذا التطوير قائمة وملحة من حولنا في كافة المجالات الشرعية وغير الشرعية، فليس معنى التطوير الانخلاع من الجذور، فالشجرة تجدد أوراقها لا تخلع جذورها، وهذا إيذان بربيع جديد لها.
كما يمكن القول بأن التطوير يقتضي قراءة النصوص في ضوء الواقع، وهذا يحتاج إلى دراسة حقيقية حول الواقع بعيدًا عن كافة التحيزات أو القراءت المزيفة وغير الموضوعية، وثم فإن هذا يمكننا من إنتاج معرفة جديدة.
كذلك فإن التطور والتجديد هو صيرورة الحياة، والماء الراكد لا يمكن أن يظل صالحًا في كافة الأحوال والأوقات، وبالتالي فإن جريان ماء جديدة في نهر الأمة المعرفي غاية لابد منها حتى تستطيع إنتاج واقع جديد يتناسب ورسالتها الحضارية، وهذا الذي نريده وندعوا إليه .
أهداف تطوير الخطاب الديني
لكل قضية من قضايا الأمة أهداف قامت هذه القضية من أجلها، ولعل في هذه النقطة تجدر الإشارة إلى ضرورة وأهمية الفصل بين تجديد الخطاب الديني وتطويره وفق رؤية الأمة وبين تطوير الخطاب الديني وفق رؤية عدوها .
إذا استطعنا ضبط هذه المسافة، فإننا نستطيع أن نتقدم خطوات في هذا الصدد، فمن الخطأ عدم ضبط المسافة بين الأراء، ولكي تتضح هذه الرؤية فإن الواقع من حولنا يعج بالقضايا الجديدة، والإسلام لابد أن يكون له موقف محدد وواضح منها؛ حتى يكون مسايرًا للعصر الذي تعيشه البشرية.
إن الهدف الحقيقي لتطوير الخطاب الديني هو اعادة الاعتبار للمفاهيم والمصطلحات بحيث تكون دالة بصورة مباشرة على مضمونها، وهذا بدوره يدفعنا إلى انجاز ما يمكن النقاش حوله في تلك القضية .
لماذا تطوير الخطاب الديني ؟
لأن الإسلام من طبيعته التجديد، فهو دين ديناميكي يجدد نفسه من وقت لآخر طبقًا للنصوص التي تجري فيها روح البقاء والخلود، فهي كالأرض التي إذا أصابها المطر أنبتت من كل زوج كريم، فكثيرًا ما يقارن القرآن الكريم بين حياة الأرض بعد نزول المطر عليها وبين حياة القلوب، هذا على أمتداد القرآن الكريم ، فهذه أول نقطة في إجابة هذا السؤال الكبير، فتطوير الخطاب الديني يعني إحياء القلوب من جديد .
قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } [فصلت:39].
وقال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [الشورى:28]
الأمر الثاني.. نحن بحاجة إلى التطوير الذاتي الذي يرقى بنا إلى كيفية التعامل مع النصوص، ومن ثم القدرة على قراءتها قراءة مغايرة ، تخدم الأمة وتساعدها، وهذا لن يكون إلا ممن لديه الأهلية والرسالية حول هذه الأمة، حتى يستطيع الوقوف على حقيقة القضايا ومن ثم يعالجها بالصورة الصحيحة، فهو كالطبيب الذي يخص الدواء الصحيح للمريض، فليست كل الأدوية صالحة لكل المرضى، وإنما لكل إنسان حالته، وتوصيفه الخاص، وهذا بالنسبة للشريعة والواقع كذلك .
ومن ذلك يمكن القول “بطرح التجديد كآلية ذاتية عبر التاريخ الإسلامى باعتباره استجابة لمجموعة من الاشكاليات التى يفرضها الواقع بمشكلاته وبقضاياه وتعقيداته المتشابكة، وعلى هذا كان التجديد يطرح دائما، بوصفه محاولة طموحة تسعى للإجابة عن هذه الإشكاليات، كنوع من المواكبة والقدرة على التجديد الذى يعنى فتح باب الإبداع…. ويخلقها العقيل الذى يموج بالأسئلة ، يمكن القول: إن التجديد يبعث في الذهن تصورات وحلول لقضايا ومشكلات من أجل تحقيق الأفضل، لذلك نجد أن منتجى الأفكار الجديدة هم قادة العالم والتفكير الموضوعي عبارة عن عمليات ذهنية”(18)
كيف يمكننا تطوير الخطاب الديني؟
تطوير الخطاب الديني لا يتوقف على مجرد الشعارات والكتابات فقط؛ وإنما يتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق، فلابد أن يستقر لدينا التفرقة بين الثابت والمتغير، فالخلاف ليس هو ثبوت النص من عدمه، إنما الخلاف حول تفسير النص وتأويله، ولذلك “هناك فارق بين تغيير المضمون وبين تغيير الشكل ، ونقصد بهذا أن يبقى المضمون ثابتًا، والعرض متغيرا في كل عصر بما يناسبه”(19)
فنحن ليس لدينا إشكالية مع النصوص الثابتة قطعيًا ودلاليًا، كالغرب الذي لديه ” إشكالية تعارض بين العقل والدين- المنقول والمعقول- ؛لأن الدين عندهم محرف، أما نحن فقواطع الشرع لا تختلف مع قواطع العقل، فهما متفقان تمامًا ولا تعارض بينهما أبدًا” (20)
لذلك فإن “القواطع العقلية تساوي قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ ولذلك معقولية العقل أو النقل غير دقيقة، فالعقل يسجد أمام القواطع الشرعية النقلية “(21)
فالقرآن الكريم قطعي الثبوت، وإجماع الأمة على ذلك متواتر لا خلاف فيه، ومنه قطعي الدلالة وظني الدلالة، والسنة النبوية منها قطعي الثبوت، ومنها ظني الثبوت، ومنها قطعي الدلالة وظني الدلالة، فإذا استطاع المرء ضبط هذه المساحة بصورة دقيقة، فإنه يستطيع بكل بسهوله ضبط بوصلة التجديد والتطوير الحقيقي وهذا بخلاف التبديل أو إلغاء النصوص وتعطيلها .
كذلك فإن ضبط مسافة الثابت والمتغير من القضايا الأساسية التي يمكن في ضوءها التفرقة بين تجديد وتطوير الخطاب الديني، وبين التبديل أو إلغاء النصوص .
فالثوابت : “هي الأصول الثابتة والقواعد الحاكمة التي توجه مسيرة الأمة إلى السعادة والفلاح، وتوحد الأمة اعتقادًا وقيمًا، وتطرد الحيرة من العقل البشري، وتضبط السلوك والتصرفات، وهي ليست مجال مساومة ولا مراجعة، ولا تحتمل تبديلا ولا تغييرًا”(22)
المتغيرات: “هي الأحكام الاجتهادية التي يمكن أن يعتريها التغيير والتبديل والتأويل، تبعًا لتغيير رأي المجتهد واجتهاده، والعدول عنه إلى قولٍ آخر لارتباط الحكم الاجتهادي بالعرفٍ أو مصلحة أو علة ونحوها؛ فإن الشارع قد راعى في كل حادثة الأعراف والمصالح والمقاصد والأحوال المحيطَة وأوصاف المكلفين وحاجاتهم؛ لأن الشريعة جاءت لهداية البشر، والمجتمع البشري متطور، والحوادث والوقائع متجددة، والظروف المختلفة تقتضي تغير الأحكام الجزئية. فالثوابت مع المتغيرات دليل على سعة الشريعة واستمراريتها، وبدونها نقع في الحرج والمشقة، وقد نستدرج إلى الانحراف، والله تعالى جعل في الإسلام ثوابت تضمن الاستمرارية، ومتغيراتٍ تكُفل له الصلاحية والملاءمة لكل الظروف والأزمان والأماكن، فالثوابت مع المتغيرات استمرار بلا جمود، وتجديد دون تحريف، وأصالة دون تفريط، ولا غِنى لأحدهما عن الآخر للحفاظ على المجتمع المسلم وحيويته وتقدمه وازدهاره”(23)
إننا بضبط هاتين القضيتين – قطعي الثبوت وظني الثبوت – قطعي الدلالة وظني الدلالة – الثابت والمتغير – فإننا نحدد المساحة التي نتحرك فيها أو نحاول تطويرها، فالإسلام بخلاف الغرب ليس لديه مشكلة مع الدين، والغرب لديه خلاف بين المنقول والمعقول، ومن ثم نشأت لدية فكرة العلمانية، وهي تعني تعطيل سلطان الدين، أما الإسلام ليس لديه مشكلة مع العقل أو العلم في حالة اعتبار أن العلمانية تعني العلم كما يقولون، هذه هي الإشكالية الأولى ..
الإشكالية الثانية.. هي أن بعض أعداء الإسلام نقلوا إلينا هذه المسألة بغض النظر عن الدين موافق أم غير موافق ، وهذا غير صحيح؛ فالإسلام لا يتعارض مع العلم أو العقل كما هو الحال لدى الغرب، وهذا محل النزاع في القضية .
و تأسيسًا على ذلك فإن مساحة التطوير والتجديد عندنا محددة بإطار معين وقراءة تحمل ضوابط معرفية بحيث تنهض على أسس شرعية ومنهجية وفق رؤية الأمة ودينها .
وبذلك فإن النقاش يدور حول تفسير وتأويل النصوص وفق رؤية جديدة تتناسب والعصر الذي تعيشه الأمة، وهذه مسألة محمودة ومرغب فيها، لكن بشرط أن تكون هذه القراءة وفق منهج الإسلام ولا تخرج عن ضوابطه التي حددها العلماء المجتهدون في كافة العصور .
نحن لدينا تراث عظيم وعميق يمكن للأمة أن تنهض عليه ومن خلاله، إذا استطاعت أن تقف على المهاد المعرفي الحقيقي الذي أسسه علماء الأمة القدماء في كافة المجالات، وبذلك فلا يمكن اهداره بحال من الأحوال، لكن يحتاج إلى قراءة واعية تساهم في ترقية الأمة ونهوضها من جديد.
هذه القراءة لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إ ذا كانت وفق مناهج رصينة، واضحة ومحددة تبعًا لأليات صحيحة في إنتاج وتلقي المعرفة .
هذا المنهج وضعه النبي – ﷺ – ، وبين أصوله عندما قال – ﷺ- :” عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ”(24)
وقوله – ﷺ – :” خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته” (25)
فهذه ثلاثة نصوص متوالية تحدد لنا طبيعة المنهج في الاستدلال وفهم النصوص، أسست لها السنة النبوية الشريفة من خلال سياق محدد لمسار الأمة في الفهم والتعامل مع النصوص الشرعية؛ حيث إن فهم النصوص وتفسيره وتأويله يخضع لهذه القواعد التي حددها النبي – ﷺ – .
فهم النصوص يكون أولا وفق القرآن الكريم بعضه بعضًا، وهذا الذي أشار إليه معاذ بن جبل – رضي الله عنه – في صدر الحديث، وهذا أعلى درجات التفسير أن يفسر القرآن بعضه بعضًا، ثم يفسر القرآن بالسنة، وهذه هي الدرجة الثانية التي أشار إليها معاذ بن جبل في الحديث، ثم يأتي بعد ذلك قوله :” قال أجتهد رأيي ولا آلو”، أي أقوال الصحابة، والصحابة كلهم عدول، وترتيبهم على ما جاء في كتب السنة والسير، من حيث الأفضلية، ودخول الإسلام والمكانة، ومن حيث التخصص كما هو مستقر عند الفقهاء كالأحناف من حيث كون الصحابي محدث أو فقهيه إلى غير ذلك من الشروط التي تؤكد بصورة حاسمة خطورة وأهمية هذه المسألة.
ثم يأتي بعد ذلك مرحلة فهم التابعين، والتي قصدها النبي – ﷺ -بقوله:”خير القرون قرني ثم الذن يلونهم ثم الذين يلونهم ” الحديث .
فهذه آخر فترة تم اعتبار فهمها للنصوص مرجعًا يمكن التحاكم إليه في سوق الأدلة والاستدلال للقضايا ومنهجهم في تفسير الدين، وقضايا الإسلام ، وهذا بنصوص ثابتة.
أما المراحل التالية لذلك، فقد تكلم فيها العلماء وفق شروط تكون في المجتهد، شروط لا تخرج عن أصول الدين وثوابته ومقاصده وقواعد اللغة وقواعد معلومة لأهل الاختصاص في كل فن، من حيث الزمان والمكان والتعارض والترجيح .
إننا بهذا المنهج العلمي الرصين نكون قد حسمنا مجموعة من القضايا التي يمارس فيها الخلط واللغط المعرفي تحت مسميات التجديد والتطوير :
القضية الأولى: أن التجديد والتطوير يتعلق بفهم النصوص فقط، وليس النصوص- الشكل لا المضمون –
القضية الثانية : أن فهم هذه النصوص مقيد بفهم معين لا يمكن أن يتقدم عليه فهم آخر، وهو الذي جاء في النصوص السابقة – تمت الإشارة إليه في الصفحات السابقة – ، وعليه درج علماء الأصول والفروع والتفسير والتأويل، وتم وضع قواعد تتعلق بذلك في مواضعها، ومظانها: كتب الأصول ( أصول الفقه– أصول التفسير- أصول العقائد ).
القضية الثالثة : إذا انتهينا من القضيتين الأولتين، فإننا نتقل إلى قضية ثالثة، وهي التفسير والتأويل الناتج بعد الحقبة الزمنية المخصوصة بالتحاكم إليها في فهم النصوص، فإن العلماء قد وضعوا له شروطًا وضوابطًا محددة لمن يتصدى لهذا الباب، وهو ما يدل على أن المسار ليس مفتوحا لكل من أراد الولوج فيه، فالذي لا تتحقق فيه شروط الاجتهاد والعلمية لا يمكن أن يقدم على قضايا كالتجديد والتطوير وإلا أصبح الأمر ضربًا من العبث، ومع ذلك فإن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة .
القضية الرابعة: وهي تتعلق بقراءة النص وفق مناهج وافد ة أو تم استعارتها من الخارج، تحت مزاعم التجديد والتطوير، وهذه مسألة تحتاج إلى تفصيل ، كالآتي:
بداية نحن كمسلمين لسنا ضد الأخذ عن الأخر في كافة صنوف المعرفة، ولدينا منهج مؤسس في ذلك منذ عصور قديمة، يعرف في كتب الأصول بمسألة ” شرع من قبلنا”، على الخلاف الواقع فيها بين الأصولين ، إلا أنها تمنحنا مساحة من النقاش حول المعرفة التي ينتجها الأخر، وإمكانية تناولها بالدراسة والتحليل .
كذلك فإننا بحاجة إلى تحديد ماذا نأخذ وماذا ندع؟ وكيف نأخذ وكيف ندع ؟
هذا القواعد والضوابط التي يمنحنا إياها التراث، والتي سطرها علماء الأمة، ومازلنا نستخدمها في مسائلنا العلمية والمعرفية تؤكد لنا قضية غاية في الأهمية وهي أن التراث الإسلامي يتميز بتصحيح بعضه بعضًا، كما أنه لديه من المخزون المعرفي الذي يصنع للأمة مهادًا معرفيًا في كافة المجالات، وبهذا يمكن البناء عليه في قضية التجديد والتطوير الديني الذي ننشده .
بناءًا على ما تقدم فإذا أردنا تطوير الخطاب الديني في كافة المجالات فإن القضية بهذه الضوابط وتلك الأسس ممدوحة، والكل مدعوا أن يلقي فيها بدلوه؛ حتى يستفيد منه الناس، بحيث يمكن أن يتكلم فيها عالم الاجتماع ويقدم للأمة رؤية تساعدها على النهوض المجتمعي، ويقدم لنا بدائل عن التفكك الاجتماعي، والسياقات التي أفرزتها العلوم في هذا يمكن في ضوءه بناء نظرية اجتماعية تتناسب مع رؤية الأمة والواقع من حولها، ففي مجال الأسرة، فإنه ” يجب علينا تربية الأسرة والأولاد كما نربي نربي أنفسنا ، وأجيال الأمة فهم جزء منهم “(26)
إذ أن “أولادنا مستهدفون بالعواصف الفكرية والعواصف الشهوانية مفتوحة أمامهم، المغريات مفتوحة على كافة الجوانب ” (27)
وتجديد الخطاب الديني في هذه النقطة يكون بتحصينهم من الشبهات والشهوات التي تستهدف بناء الأسرة من الأساس، وهذا يكون بتوضيح الطريق لهم وتحذيرهم من الأنزلاق في المنحدرات الخطأ، فيوجد ” فارق بين معادة الجيل الجديد حيث أصبح مستهدفًا من الأعداء، وبين توعيه والأخذ بيديه “(28)
وهذا يقودنا بالضرورة إلى مرعاة الفوارق بين المجتمعات والأزمان، وبين أمراض عصرنا وأمراض العصر الحالي، ” فمن الخطأ المقارنة بين مجتمع لم يكن فيه الانفتاح بهذه الصورة ومجتمع أخر متاح فيه كل شيء ؛ لذلك فهذا يحتاج إلى طرح جديد ، ومواجهة مناسبة لهذه الأمور. ” (29)
فهذه قضية من القضايا الكبرى قضية تطوير الخطاب الديني المتعلق بالأسرة حتى يستطيع التعامل مع التحديات المعاصرة بصورة مناسبة وصحيحية .
وإذا أردنا تطوير الخطاب الديني المتعلق بالعملية التعليمية فإن هذا يحتاج إلى تقديم رؤية تنطلق من تصور الأمة وأهدافها، وتربط بين ماضيها وحاضرها، وتقدم تاريخها للأجيال القادمة والصفحات المشرقة فيه في صور من العوامل التربوية التي تساعدها في النهوض من جديد.
هكذا بقية المجالات المعرفية والعلمية بحاجة إلى التطوير والتجديد، نحن بحاجة إلى تطوير الإنسان قبل كل شيء، وتطوير الإنسان يكون بإنقاذه من الأخطاء والأفكار المنحرفة، والاستقامة الدائمة التي كان يطلبها النبي – ﷺ – كل يوم في جميع صلواته، وعلى مدار حياته، بقوله :” اهدنا الصراط المستقيم ” .[الفاتحة: 5ٍ]
فالصراط المستقيم لا يمكن للإنسان أن يحققه في فترة معينة، بل يظل طيلة حياته يسعى إلى ذلك، حتى يلقى الله – عزوجل – ، فكل العباد يشعرون بالتقصير يومًا بعد يوم خصوصًا عندما يتعمقون في العبودية، وهذا شأن المتقين .
أما التجديد الدنيوي والذي دعى إليه النبي – ﷺ – بقوله: ” أنتم أعلم بأمر دنياكم” (30)
فهذا نص صريح منفتح على كافة الاجتهادات فيما يتعلق بأمر الدنيا، ويخدم الأمة ، فالإسلام لم يمنع من ذلك، بل دعى إلى الإبداع والإبتكار في كل شيء؛ حتى لا تكون الأمة عاجزة أو مقهورة تحت عدوها، سواء في مجال الصناعة أو التجارة أو العلم والمعرفة أو غيرها .
إذا فهم الناس هذه الأمور على حقيقتها أدركوا أهمية التجديدوالتطوير ، ومكانته في الشريعة، من عوامل بعثها من جديد.
الخاتمة والتوصيات
وبعد فإن قضية تطوير الخطاب الديني وتجديده من القضايا التي تحتاج إلى معالجة دقيقة ، وممارسة فاحصة؛ حتى نستطيع الخروج بمنجز معرفي حقيقي في هذا الصدد، ومن ذلك توصل الباحث إلى مجموعة من النتائج تتعلق بهذا الموضوع .
أولًا: قضية التجديد وتطوير الخطاب الديني من القضايا القديمة الحديثة، التي بحث فيها علماء الأمة منذ وقت طويل، معتمدين في ذلك على قوله – ﷺ-:” إن الله يبعث لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها”، لذك كانت هناك محاولات تجديدية قديمة، كتلك التي قدمها “الغزالي” و”الجويني” وغيرهم… كما أن هناك محاولات حديثة ومعاصرة، والفيصل في هذا الصدد هو تقديم قراءة جديدة للنصوص تتوافق مع تراث الأمة ومشروعها الحضاري، وفي الوقت نفسه تخدم واقع الأمة العملي والمعيشي .
ثانيًا : لا يمكن أن يكون تجديد الخطاب الديني وتطويره إلا وفق مقاصد الأمة ورؤيتها الحضارية، ولا يمكن بمعزل عن تراثها ورؤيتها للكون والحياة، وهذه نقطة في مسار التجديد لمن أراد التصدي له .
ثالثًا: فارق بين محاولات التجديد والتطوير المحمودة، وبين الإدعاءات التي ترنوا لذلك؛ وفق رؤية غريبة عن الأمة تحت مسميات التجديد، والتنوير، وغير ذلك… فالمصطلحات لها دلالتها المحددة، ومن الخطأ إقحامها في معركة خاطئة .
رابعًا: الإسلام لم ولن يمنع التقدم والرقي والنهوض، لكن ضد الانسلاخ والتنكر لأصوله وجذوره، وبناءَا عليه فإن التجديد يكون من داخله ووفق رسالته الخالدة، لذلك هو يرفض كل الأدوية التي لا تنبع منه، وإنما تفرض عليه .
خامسًا: نحن بحاجة إلى التطوير الحقيقي الذي يخرج أمتنا من حالة الركود التي تعيشها، ويعيدها إلى ممارسة دورها الحضاري، في كافة الجوانب الشرعية والدينية التي تتعلق بحياة الروح، والجوانب الدنيوية التي تتعلق بحياة الناس، وهذان أمران لا غنى عنهما للبشر.
التوصيات
من التوصيات التي نحتاج إليها في هذا الموضوع ، كالأتي:
لابد من فهم التطوير والتجديد على أنه مجهود ذهني ومعرفي لا يمكن أن يمارسه أي شخص لديه ثقافة عامة، وإنما هو لأهل العلم في كافة المجالات المعرفية، ولذلك فنحن بحاجة إلى :
- تطوير وإنتاج المعرفة الحديثة التي تتناسب وروح العصر، كما أنها لا تخالف تعاليم الإسلام الحنيف .
- كذلك فإن التطوير يحتاج إلى جهد الأمة ككل على اختلاف مشاربها؛ فبه ينتج التنوع والتلاقح المعرفي، وبدونه يكون التحيز وتأتي القراءات الخاطئة وغير الموضوعية .
- في عملية التطوير والتجديد نحن بحاجة إلى إعادة الإعتبار إلى المصطلحات والمفاهيم حتى يمكننا ضبط كافة المسائل والقضايا ووضعها في نصابها الصحيح.
الهوامش :5>
(1) أحمد ابن فارس (مقاييس اللغة)، تحقيق، عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ – 1979م
(2) عبدالرحمن رجاء السلمي : منهج ابن الأثير في تناول الشاهد الشعري، ” المثل السائر نموذجًا”، كلية الآداب، بسكرة ، الجزائر، يوليو 2016م
(3) أحمد مختارعمر : معجم اللغة العربية المعاصرة ، بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، 1429 هـ – 2008 م(2/ 1420)
(4) عبدالرحمن رجاء السلمي : منهج اب ن الأثير في تناول الشاهد الشعري، ” المثل السائر نموذجًا”، كلية الآداب، بسكرة ، الجزائر، يوليو 2016،ص178
(5) عبدالرحمن رجاء السلمي : منهج ابن الأثير في تناول الشاهد الشعري، ” المثل السائر نموذجًا”، كلية الآداب، بسكرة ، الجزائر، يوليو 2016،ص178
(6) ابن منظور: لسان العرب، ج 3/ 111
(7) ابن منظور: لسان العرب، ج 3/ 111
(8) عبدالعزيز الراجحي: شرح كتاب سنن ابن خزيمة، ج9/ص22.
(9) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م. ،ج 4/93
(10)أحمد مختار عمر: معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 348)
(11) ناصر بركه: أدبية السير الذاتية في العصر الحديث بحث في آليات اشتغال النصوص ومرجعياتها الفاعلة، 2013ص17
(12) ابن فارس: مقاييس اللغة (2/ 198)
(13) المسلمون والغرب، معنى تجديد الدين ، مجلة الوعي، العدد ( 129 )، شوال 1418
(14) محمد عبد الرءوف المناوي : فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج 2/ص 281
(15) صالح مفقودة، صبرينة رقاد: ملامح التجديد في شعر دعبل بن علي الخزاعي، مجلة كلية الآداب، ع22، جامعة محمد خضير ، بسكرة ، الجزائر، 2018، ص276
(16) رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في “المقاصد الحسنة” (149)، والألباني في “السلسلة الصحيحة” (رقم/599)
(17) محمد عبد الرءوف المناوي : فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج 2/ص 281
(18) عثمان محمد عثمان : أثر منهج التجديد عند الشيخ محمد عبده في رؤية عبدالمتعال الصعيدي التنويري، مج كلية الأداب، جامعة القاهرة، مجلد81، ع5، 2021م، ص303
(19) حسان الهندي : أسباب دراسة السيرة،10/11/2015م
(20) حسان الهندي : شرح الأقتصاد في الأعتقاد، للإمام الغزالي، 6/2/2023
(21) حسان الهندي : شرح الأقتصاد في الأعتقاد، للإمام الغزالي، المرجع السابق.
(22) الثوابت والمتغيرات، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 2012 ص4
(23) الثوابت والمتغيرات، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 2012 ص 4 -5
(24) سنن أبي داود ت الأرنؤوط (7/ 17)، قال المحقق، حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من جهة عبد الرحمن بن عمرو السُّلمي. وحجر مجهول، وقد توبعا كما بيناه في “مسند أحمد” (17142). وهذا الحديث قد صححه الترمذي والبزار فيما نقله عنه ابن عبد البر في “جامع بيان العلم وفضله، والحاكم، وابن عبد البر والضياء المقدسي، والهروي، والذهبي، وابن رجب الحبلي في “جامع العلوم والحكم” 2/ 109 وقال ابن رجب: هو حديث جيد، من صحيح حديث الشامِين، ولم يتركه البخاريُّ ومسلمٌ من جهة إنكار منهما له.وأخرجه ابنُ ماجه (44)، والترمذي (2871) من طريق ثور بن يزيد، والترمذي (2870) من طريق بحير بن سَعْد، كلاهما عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمر ووحده، به.وأخرجه ابن ماجه (43) من طريق معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حببب، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، به.وأخرجه ابن ماجه أيضاً (42) من طريق يحيى بن أبي المطاع، قال: سمعت العرباض بن سارية. ويحيى وإن صرح بالسماع من العرباض واعتمده البخاري وجزم به في “تاريخه” أنكر حفاظ أهل الشام سماعه منه، فيما ذكر المزي في “تهذيب الكمال”، وابن رجب في “جامع العلوم والحكم” 2/ 110، فالاسناد منقطع. قال ابن رجب: وقد روي عن العرباض من وجوه أخر.وله طريق أخرى عند ابن أبي عاصم في “السنة” (28) و (29) و (59)، والطبراني 18/ (623) من طريق إسماعيل بن عياش، عن أرطاة بن المنذر، عن المهاصر بن حبيب، عن العرباض. وإسناده حسن إن شاء الله تعالى.والحديث بهذه الطرق مجموعة لا شك أنه يرتقي إلى درجة الصحيح.
(25) رواه البخاري ، كتاب الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، (3/ 171) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، (4/ 1963).
(26) حسان الهندي : أسباب دراسة السيرة،10/11/2015 م
(27) المصدر السابق .
(28) المصدر السابق.
( 29) حسان الهندي : أسباب دراسة السيرة،10/11/2015م
(30) صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب وجوب امتثال ما قاله شرعا، دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا، على سبيل الرأي ،ج4/ 1836.
المصادر والمراجع:5>
أحمد ابن فارس (مقاييس اللغة)، تحقيق، عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ – 1979م
أحمد مختارعمر ( معجم اللغة العربية المعاصرة) ، بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب، 1429 هـ – 2008 م.
آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1997م.
بسطامي محمد سعيد خير: مفهوم تجديد الدين، مركز التأصيل للدراسات والبحوث، جدة – المملكة العربية السعودية ، 1433 هـ – 2012 م.
الثوابت والمتغيرات، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، 2012 .
عبدالرحمن رجاء السلمي : منهج اب ن الأثير في تناول الشاهد الشعري، ” المثل السائر نموذجًا”، كلية الآداب، بسكرة ، الجزائر، يوليو 2016م
محمد عبد الرءوف المناوي : فيض القدير شرح الجامع الصغير، المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة: الأولى، ١٣٥٦هـ.
المسلمون والغرب، معنى تجديد الدين ، مجلة الوعي، العدد ( 129 )، شوال 1418
ابن منظور: (لسان العرب)، دار صادر – بيروت الطبعة: الثالثة – ١٤١٤ هـ
ناصر بركه: أدبية السير الذاتية في العصر الحديث بحث في آليات اشتغال النصوص ومرجعياتها الفاعلة، 2013م.
الدوريات والمجلات :
صالح مفقودة، صبرينة رقاد ( ملامح التجديد في شعر دعبل بن علي الخزاعي)، مجلة كلية الآداب، ع22، جامعة محمد خضير ، بسكرة ، الجزائر، 2018.
عثمان محمد عثمان (أثر منهج التجديد عند الشيخ محمد عبده في رؤية عبدالمتعال الصعيدي التنويري)، مج كلية الأداب، جامعة القاهرة، مجلد81، ع5، 2021م.
المواقع الالكترونية :5>
حسان الهندي (أسباب دراسة السيرة) 10/11/2015م،
حسان الهندي (شرح الأقتصاد في الأعتقاد) للإمام الغزالي، 6/2/2023