إن أول سؤال يطرحه كتاب “مقاصد الشريعة” للعلواني هو لماذا لم يراجع الإسلاميون تراثهم بأنفسهم؟ وهو في الحقيقة سؤال محرج، لكنه يكشف الغطاء عن حقيقة مرة. وما ينبغي أن نطمئن إليه هنا هو أن صاحب الكتاب لا يقلل من المجهودات التي بذلت من داخل التراث، لكنه يرى أنها لا تمثل إلا نسبة قليلة عندما تقارن مع تلك التي بذلت من الخارج. ولذلك يرى أن أهل التراث هم أولى بمراجعة تراثهم من غيرهم؛ وهذا ما يؤكده بقوله: “إن الذي لا يراجع تراثه بنفسه سيراجعه له خصومه بعين سخط”.

وفي نظره أن تردد كثير من العلماء في نقد التراث راجع إلى أسباب:

– للحفاظ على الهوية في فترة الاستعمار تم استخدام الماضي كأهم وسيلة للتحريض على تغيير الحاضر؛ وهو ما جعل بعض العلماء يكرسون صلاحية التراث وسلامته.

– الفهم السيئ لمفهوم النقد؛ بحيث لم يعد يعني عند البعض سوى السب والهجو. وكذلك الفهم السيئ لمفهوم الاحترام عندما يتعلق الأمر بالأكبر في السن.

– اعتبار النقد وإبداء الرأي أمام فكرة الإجماع –ولو في نطاقه الضيق- نوعا من الانشقاق الذي يهدد إجماع الأمة ووحدتها.

– شيوع بعض العبارات التي تكرس التقليد والجمود على الماضي، مثل (ما ترك الأوائل للأواخر شيء)، ومثل (ليس في الإمكان أبدع مما كان).

– مبالغة كتب التراجم في بيان مناقب الماضين من أهل العلم؛ وبالتالي تكريس ثقافة التقديس.

– ما تعرض له بعض من تجرأ على مراجعة التراث من الأذى والسجن وحرق الكتب، والاتهام بالردة والزندقة…

وانطلاقا من حرصه الدائم على التعامل الإجرائي المباشر مع الأزمات التي تعاني منها الأمة في الواقع يدعو الشيخ العلواني إلى ضرورة المراجعة الشاملة للتراث. ويصرح بذلك قائلا: “إن إخراج الأمة الوسط المخرجة للناس من هذه الأزمة يقتضي مراجعة شاملة، ذات منطلقات منهجية ومعرفية لتراثنا كله” . وهذا يقتضي منا أمران:

الأمر الأول: ضرورة استيعاب الخصائص العامة للإسلام؛ وهذا لا يمكن أن يتأتى إلا بالرجوع إلى الوحي المقروء والهدي النبوي، ومن تلك الخصائص:

– عالمية رسالة الإسلام وشموليتها؛ بحيث تتجاوز الزمان والمكان والأشخاص.

– حاكمية القرآن وهيمنته على ما عداه.

– شرعة تخفيف وتيسير ورحمة؛ تنسخ ما سبقها من الإصر والأغلال.

– نبوة خاتمة تشمل رسالات الأنبياء كافة.

– أمة مخرجة للناس نموذجا ومثالا، تشهد على الناس بالخير والعدل والرحمة.

الأمر الثاني: ضرورة التمييز بين الوحي الإلهي والتراث البشري؛ ذلك أن المعني بالمراجعة هو التراث الذي أنتجه العقل البشري، وليس الوحي.

وبالإضافة إلى ذلك فهو يرفض الدوائر الثلاث السائدة التي تحكم أساليب تعاملنا مع تراثنا في الوقت الحاضر: دائرة الرفض المطلق له، ودائرة القبول المطلق، ودائرة الانتقاء اللامنهجي.

ومن أهم القضايا الاجتهادية التي شغلت بال العلواني منذ وقت مبكر إشكالية الردة، حتى إنه ألف فيها كتابا من الحجم المتوسط، سماه “لا إكراه في الدين: إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم” وفيه يناقش قضية حد الردة في الإسلام، ليؤكد بالأدلة على أن هذا الحد غير موجود ولا يصح تطبيقه؛ لأن تطبيقه يشكل خطورة كبيرة، إذ قد يتسبب في ظلم العباد. ولذلك يرى أن كل من قال بقتل المرتد إنما وقع لهم خلط بينما هو سياسي وديني، مستدلا على ذلك بوقائع ونوازل حقيقية تبين مدى استغلال السلطة السياسية في فترات من التاريخ لمقولة الردة التي لا أصل لها، وتحويلها إلى سلاح تشهره في وجوه كل المعارضين والخصوم، بمن فيهم كبار العلماء الذين تجرؤوا على نصح الحكام.

وهذه حقيقة مرة، لم يقررها العلواني إلا بعدما بين حقيقة الردة كما بينتها نصوص الوحي قرآنا وسنة؛ حيث بين أن حرية الاعتقاد مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، وأنه لا يليق برسالة الإسلام رسالة الرحمة أن يقال إنها تكره الناس على اعتناق الإسلام، وأن الله تعالى توعد المرتد بالعقاب الأخروي دون أن يرتب على فعله عقوبة دنيوية.

ومن القضايا التي دعا الدكتور العلواني إلى مراجعتها إشكالية النسخ: وهي في الحقيقة إشكالية فهم، وليست إشكالية وجود، ومما يدل على ذلك أن مفهوم النسخ عرف تطورا أفقده معناه؛ حيث كان معناه عند المتقدمين النقل، وهو يتعلق بورود نصين – في ذهن الفقيه – على قضية ما، فيكون السابق دالاً على حكم في حالة واللاحق يدل على انتقال عن ذلك الحكم في إطار تخصيص العام وتقييد المطلق وبيان المجمل. في حين أصبح النسخ عند المتأخرين يدل على إبطال الحكم ومحوه لإزالة التعارض الذي قد يتوهمه البعض بين النصوص.

وفي نظر الدكتور طه أن القائلين بالنسخ إنما يستندون في الغالب إلى روايات ظنية الثبوت؛ وهم بذلك يجعلون النص القرآني تابعا لا متبوعا، وهذا يتناقض مع حقيقة أن القرآن محفوظ ببنائه، كما أن القول بالنسخ هو قول بتحريف القرآن، وقول بأن الله يشرع حكما ثم يتراجع عنه، لأنه لم يعد صالحا. ويتعجب الدكتور طه من أنّ القائلين بالنسخ هم من آمنوا بأزلية القرآن وقدمه وخاضوا معارك وقدموا تضحيات في سبيل ذلك، لكنها عقلية التجزئة!!

ولقد حاول العلواني – وهو يفند دعوى النسخ – أن يتتبع كل الآيات التي زعم التناسخ بينها، ليبين سياقاتها ويضعها جميعا في إطار الوحدة البنائية للقرآن، وفي إطار الجمع بين قراءة المسطور والمنظور؛ ليستنتج الدكتور طه أنّ قضية النسخ في القرآن لا تعني أبداً إبطال بعض آيات القرآن أو إزالتها أو إبدال بعضها مكان بعض بل على العكس من ذلك تعني تثبيت القرآن المجيد كله في مقابل أي محاولة للنيل منه أو التشويش عليه أو التشكيك فيه والصد عنه. قال تعالى: ((وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته)) ، أو في مقابل ما سبقه من كتب وشرائع وأنساق قامت على اصطفاء قومي وحاكمية إلهية لن تعود أبداً، وهنا يستدل بتحويل القبلة من بيت المقدس والعودة بها إلى البيت الذي بني من أول يوم ليكون مثابة للناس وأمنا؛ فيعتبر أن مرحلة الصلاة لبيت المقدس كانت مجرد مرحلة مؤقتة للبحث عن المشتركات مع بني إسرائيل لإثبات وحدة المصدر والأصل، ولما تم تحويل القبلة كان ذلك إعلاناً بانتهاء تجربتهم، بعد أن أمر الله المسلمين بالإيمان بأنبيائهم جميعا، وبين أن القرآن جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.

ومن الإشكاليات التي طرحها العلواني كذلك إشكالية المحكم والمتشابه، وقد ناقشها من خلال الآية السابعة من آل عمران ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)) ، والتي فهم منها كثير من المفسرين أنّ القرآن فيه آيات محكمات وأخر متشابهات، وأن المحكم هو ما كانت دلالته واضحة، والمتشابه هو ما كانت دلالته غير واضحة؛ بل لقد وصل الأمر إلى حد القول بأنّ في القرآن غموض والتباس، وفيه كلمات غريبة، حتى إن كثيرا منهم ألف في غريب القرآن . فأين هذا القول من قوله تعالى: ((كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)) . والحقيقة أن المتتبع للآيات التي تحدثت عن المحكم والمتشابه سيجد على أن القرآن وصف فيها كله بالإحكام وكله بالتشابه؛ مما يدل على أن لا تعارض بين الصفتين فهو كله محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كله متشابه يشبه بعضه بعضاً لا اختلاف فيه ولا تناقض.

وقد رجح المفكر الإسلامي طه جابر أن تكون آية آل عمران وردت في سياق مناقشة النصارى من أهل الكتاب بعد أن فرغت سورة البقرة من مناقشة اليهود، وذلك يجعل السياق يشير من بداية السورة بأنّ التشابه يقصد به التشابه بين الكتب المنزلة؛ ليكون ذلك حافزا لأهل الكتاب بأن يقبلوا على الرسالة الخاتمة، لكن زيغ قلوب بعضهم جعلهم يقلبون الآيات؛ حيث يزعمون أنّ التشابه بين القرآن والإنجيل في بعض الأمور يثبت أنّ ما لديهم هو الأجدر بالاتباع. وخلاصة ما توصل إليه اجتهاد العلواني رحمه الله في المسألة أنّ المحكم والمتشابه في آية آل عمران ليس وصفاً لبعض آيات القرآن في مقابل البعض الآخر، وإنما وصف لها في مقابل ما سبقه.

وأما إشكالية التعامل مع السنة النبوية فهي الأخرى شغلت بال المفكر العراقي منذ زمن طويل؛ حتى أنه أفرد لمعالجتها مؤلفا تزيد صفحاته عن 400. وقد استهدف من خلاله التوفيق بين الكتاب والسنة؛ وذلك بتحديد دقيق لعلاقة غير مكلفة بينهما؛ ممهدا لذلك ببيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم بأنها تبليغ الرسالة وتنزيلها عمليا، ثم التمييز بين السنة كمفهوم قرآني وكمصطلح تاريخي تطور عبر قرون من الزمن. مشيرا إلى أنها استعملت في القرآن في السنن الكونية والاجتماعية، كما أنها استعملت بمعنى الطريقة. في حين تم استعمالها في التداول التاريخي بمعنى يجعلها مقصورة على روايات الحديث التي جمعها الرواة.

وبعد استخلاصه لمفهوم السنة النبوية بأنه طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق القرآن تساءل العلواني قائلا: فإذا كانت السنة النبوية لا تعني سوى التطبيق العملي للقرآن فمن أين تأتي إذن فكرة الثنائية التشريعية التي سيطرت على العقل المسلم طيلة قرون مديدة، فتوهم أن للدين مصدرين هما القرآن والسنة؟

وخلاصة ما انتهى إليه العلواني أن السنة النبوية هي البيان التطبيقي للقرآن الكريم باعتباره المصدر المنشئ للأحكام.