إن اختلاف الأزمنة والأمكنة وما حوتها من أنواع التغير فإنه لا يسوغ القول بتغير الأحكام الشرعية الأساسية، فما كان حلالا في عصر الوحي حلال أبدا، والحرام يبقى كما هو ولن ينقلب حلالا أبدا، إن الخمر، والميسر، والزنا، والربا، والسرقة، وما أشبه ذلك من المحرمات الثابتة والمعلومة من الدين بالضرورة؛ كلها سيئة عند اﷲ عز وجل وعند المؤمنين، وغير قابلة للتغير بتغير الزمان والمكان، وأما الأحكام التى سبيلها الاجتهاد لعدم ورود النص لتوضيحها، فإنها قد تقبل التغيير، وهو المراد بقاعدة تغير الفتوى، التي لا يجوز إنكارها.

وذلك أن الواقعة إذا وقعت فلا تخلو من حالات:

1- أن تكون مما ورد فيها نص صحيح صريح، وهذا يجب الأخذ به بلا مناص.

2- أو ما يكون النص فيها صحيحا غير صريح.

3- أو لم يرد نص فيها بعينها أصلا.

وفي الحالتين الآخيرتين سعة الاجتهاد لمن له قدم راسخ في العلم، والحكم فيهما قد يتغير بتغير الزمان والمكان. 

والمقصود أن الحكم الشرعي المؤسس على الكتاب والسنة؛ لا يطرأ عليه التغيير بناء على تغير الزمان والمكان، وإنما يتغير من الحكم الشرعي ما كان مستنده الاجتهاد.

مفهوم قاعدة:” تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان”

اختلفت الآراء فى تنزيل قاعدة “تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان” على الواقع، بناء على ضمائر أصحابها ومراميهم، ومنهم من اتخذها مطية للادعاء بأن الشريعة الإسلامية خاضعة لكل زمان ومكان وخاضعة لجميع الأعراف والعادات أية كانت؛ حتى تتجاوب الشريعة وتتماشى مع العصر. ومنهم من استثنى مسائل العقيدة الإسلامية من القاعدة دون غيرها، ومنهم من أنكر تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان جملة وتفصيلا كما ينقل ذلك عن ابن حزم، وهذه المسالك غير مرضية.

والذى عليه المحققون من أهل العلم كالإمام القرافي وعز الدين بن عبد السلام وابن تيمية وابن القيم والشاطبي وأمثالهم أنهم قالوا بالقاعدة وحرروها في كتبهم بضوابط محكمة، ولم يرسلوها عبثا كما يتضح ملخص ذلك فيما يلى.

حيثياث تغير الفتوى المعتبر

ينشأ تغير الفتوى من حيثيات عديدة، يمكن حصرها في جهتين: جهة المفتي، وجهة محل الفتوى.

أ- تغير الفتوى بتغير حال المفتي

أحيانا يكون حال المفتي له دخل في تغير الفتوى لأسباب كثيرة ومن أشهرها:

1-الوقوف على دليل المسألة لم يكن يعرفه من قبل

يحدث تغيير الفتوى في بعض الأوقات نتيجة لبلوغ المفتي نص وارد في الحادثة ومخالف لما أفتى بلا علم، والذي له أثر في تغير فتواه، وقد نبه عمر أبا موسى رضي اﷲ عنهما على ذلك وأنه من خلق حسن إذا تغير فتواه بناء على زيادته في العلم، حيث قال له:” لا يمنعك قضاء قضيته راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل في الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة”[1]

ويقول عبد اﷲ بن وهب – أحد تلاميذ الإمام مالك-: سمعت مالكا يسأل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء؟ فقال: ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خف الناس فقلت له: يا أبا عبد اﷲ سمعتك تفتي في مسألة تخليل أصابع الرجلين زعمت أن ليس ذلك على الناس، وعندنا في ذلك سنة، فقال: وما هي؟ فذكر له الحديث المروي فى ذلك فقال مالك: إن هذا حديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة، وقال ابن وهب: ثم سمعته يسأل بعد ذلك فأمر بتخليل الأصابع.[2] 

2-إعادة النظر في دليل النازلة

ولربما يحصل تغير الفتوى أو الاجتهاد بسبب اهتداء المفتي إلى فحوى دليل النازلة بعد افتائه فيها خطأ، كما حصل لعمر رضي اﷲ عنه لما قضى بالتشريك بين الأخوة لأم والإخوة للأب والأم في الثلث، قال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، فقال عمر:” تلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما قضينا “[3]

3- طبيعة بشرية المفتي

وتارة قد تكون طبيعة بشرية المفتى أثرا في تغيير الفتوى، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام قوله: لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان”.

وقال الخطابي رحمه االله:” الغضب يغير العقل ويحيل الطباع عن الاعتدال فلذلك أمر الحاكم بالتوقف في الحكم ما دام به الغضب، فقياس ما كان في معناه من جوع مفرط، وفزع مدهش، ومرض موجع، قياس الغضب في المنع من الحكم” وكذا الافتاء في ذلك على سواء.

هل الواجب على المفتي إخبار من أفتاه بتغيّر فتواه؟

ينظر -واﷲ أعلم- إذا كان تغير الفتوى بسبب مصادمته للنص الجلي ونحوه، وعنده يجب إخبار المستفتى بتغير فتواه وخاصة إذا لم يكلفه التعب ببحث عنه، وقد يستأنس في هذا بقول الإمام الشافعي الشهير ” إذا خالف قولي حديثًا فاضربوا بقولي عرض الحائط ” ولفعل ابنِ مسعود رضي اﷲ عنه حيث أفتى رجلاً بجواز نكاح أم الزوجة إذا لم يدخل بها، فأخبره الصحابة بتحريم ذلك، فرجع إلى الحيّ الذي فيه المستفتي وسأل عنه وأخبره بخطإ الفتوى.[4] 

وهذا يدلك على إلزام المفتي بإعلام الناس برجوعه عن الفتوى الأولى المخالفة للدليل الواضح، وأما ما دون ذلك عسى أن يكون هينا كما في صنيع عمر رضي اﷲ عنه في قضية الميراث السابق الذكر.

ب- تغير الفتوى نظرا لتغير جهة محل الفتوى

نذكر فيما يلي بعض أسباب تغير محل الفتوى:  

١- تغير الفتوى بناء على حال المستفتي

قد تؤثر في الفتوى أحوال مرتبطة بالمستفتي، مما يجعل المفتي مدمن النظر إلى مآلات تلك الأشياء فيغير الفتوى بسببها ويصدر الحكم المناسب في حاله، ويرد أن يستفتي المفتي في واقعة ما فيفتي فيها بالحكم الشرعي، ثم ترد عليه عين الواقعة السابقة لشخص آخر ويفتي بخلاف الفتوى الأولى لوجود العلة المغيرة للحكم الأول في الحالة الجديدة. 

ومن ذلك ما جاء في السنن عن أبي هريرة:” أن رجلا سأل النبي صلى اﷲ عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له، وأتاه آخر فسأله فنهاه، فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب.”[5] ومن المسلم هنا أن نهي النبي صلى اﷲ عليه وسلم لشاب منوط بالمآل، لأن الشاب الصائم قد لا يملك إربه عند مباشرة زوجه في أثناء الصوم فيؤدي ذلك إلى فساد الصوم، وناسب في حاله المنع خلافا للشيخ الذي الغالب فيه الانضباط.

٢- تغير الفتوى بسبب اختلاف العوائد والأعراف

لا عبرة للعوائد والأعراف المخالفة للشرع في تغيير الفتوى، وإنما المقصود هنا: الأعراف والعادات التى أسست عليها بعض الأحكام الشرعية، ويدور معها الحكم وجودا وعدما، وربما يعبر عنها بقولهم ( العادة محكمة ) فالعادات في هذه الحالة يجب مراعاتها دوما. 

قال القرافي رحمه اﷲ: فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك: لا تُجْرِه على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده، وَأَجْرِه عليه، وأفته به دون عرف بلدك، ودون المقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح..[6] وعلق ابن القيم على هذا النقل بقوله:” وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرفهم، وعوائدهم، وأزمنتهم، وأحوالهم، وقرائن أحوالهم: فقد ضل، وأضل.[7]

٣ – تغير الفتوى من باب السياسة الشرعية

هناك بعض تصرفات لولي الأمر توصف بالسياسة الشرعية، قد تكون هذه السياسة في تطبيق بعض الأحكام لم تأت الأدلة بخصوصها، أو في منع تنفيذ بعض الأحكام معقولة المعنى لقصد تحقيق المصالح ودرء المفاسد، فتقبل التغيير بتغير ما بنيت عليها من جلب المصالح وفق وجهة نظر ولي الأمر إن أهلا لذلك.  

والأصل في هذا الباب قول النبي صلى اﷲ عليه وسلم لعائشة رضي اﷲ عنها: يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون” ولعمر رضي الله عنه أخبار كثيرة في مثل هذه السياسة.

٤-تغير الفتوى بسبب فساد الأخلاق والتساهل في الأحكام الشرعية.

إن ظهور الفساد في المجتمع وعدم المبالاة بالأمور الدينية والأخلاقية وتفشى المنكرات وقلة الورع والظلم والفسق والكذب وما أشبه ذلك مما يعبر بفساد الزمان عند أهل العلم، وإنه يؤثر في تغيير تنزيل بعض الأحكام الشرعية، كتضمين علي رضي الله عنه الصناع بناء على تغير حال الناس، وقال:” لا يصلح الناس إلا ذاك”[8]

٥- تغير الفتوى وفق المعطيات العصرية

معرفة مدارك الأحكام وعللها تجلى نوعية الحكم الشرعي ممكن تغير الفتوى فيه بتغير ما أنيط به، ومع تطور الزمن الراهن وتجدد التقنيات المخترعة الحديثة؛ قد يكون لها أثرا في تغيير بعض المسائل الدينية، وقديما كان المؤذن يرتقى فوق السور والبيوت للأذان، واليوم مع وجود مكبر الصوت لم يكد يوجد من يؤذن فوق المسجد، فتغير شأن الأذان من هذه الحيثية وفق المعطيات العصرية.

وسئل الشيخ عبد اﷲ جبران رحمه اﷲ عن الإبراد في صلاة الظهر، هل العلة هي شدة الحر، فإذا كان كذلك فهل تطبق في هذا العصر مع وجود المكيفات؟  

فقال رحمه اﷲ: صحيح أن العلة هي شدة الحر، وفي هذه الأزمنة لما وجدت هذه المكيفات فالصحيح أنه لا حاجة إلى الإبراد الذي كانوا يفعلونه في العهد القديم، لزوال العلة، وجود المبردات التي تخفف من شدة الحر.[9] .

وهذا ضرب من تغير الفتوى يجب أن يكون على الحذر وبالنظر المحرر وفق الشرع. 

٦- تغير الفتوى بتغير المكان (هو ما يسمى بفقه الأقليات)

من المعلوم أن ما يمكن تطبيقه من الأحكام الشرعية في دار الإسلام قد يتعذر ذلك في بلدان غير إسلامية، مما يؤدى إلى تغيير الفتوى مراعاة لأحوال المسلمين المتواجدين في بلاد لا تدين ولا تقر بأحكام الإسلام مثل أحكام الميراث والأسر ونحوها.

٧- تغير الفتوى طبق عموم البلوى أو لمراعاة لمصلحة راجحة.

قد يرى أهل العلم بالفتوى عدم جواز شيء في وقت من الأوقات لما يسبب من المفسدة الغالبة في دنيا الناس، ثم إذا عم به البلوى مع إمكانية تحقيق المصلحة في بعض الجوانب من هذا الشئ، وحينه يتغير فتوى المفتين إلى الجواز والإباحة بناء على عموم البلوى به وتحقيق المصلحة.  

وأوضح مثال في هذا الصدد قضية التلفاز وأخواته في أول وهلة، حيث يوجد بعض العلماء من لم ير مشروعية إباحة مشاهدة التلفاز وأشكاله فضلا من إدخاله في بيوت المسلمين؛ لما يترتب عليه من المخالفات الشرعية وجلب المفسدة إلى أوسط المسلمين، إذ زمام إدارة تلك الأجهزة بأيد الغرب وقليل ما للمسلمين، ولكن بعد مرور الوقت وشدة تعلق الناس بمشاهدة الفضائية والقنوات وافتتانهم بها مع تطور المسلمين في إيجاد القنوات الدينية البديلة، وعليه تغير وجهة نظر جل من أفتى بالمنع إلى عدم الحرج ومن أبرزهم الشيخ بن العثيمين رحمه الله.


[1] سنن الدارقطني (٤٤٧١).

[2] سنن البيھقي (٣٦١).

[3] المصنف (١٩٠٠٥).

[4] أصول الفقه الذى لا يسع الفقيه جهله ص:473

[5] رواه أبو داود (2387) وصححه الألباني

[6] الفروق ١(/ ٣٢١) .

[7] إعلام الموقعين (٣/٧٨).

[8] الاعتصام للشاطبي 2/616

[9] موقع الشيخ عبد ﷲ جبرين.