هذه مسألة تَـميزَ الإمامُ الشاطبي بتأصيلها وتفصيلها، وإن كانت فكرتها، أو بذرتها، الأولى موجودةً عند الإمام الغزالي، كما سيأتي.
ومُضَمَّنُ هذه المسألةِ هو: أن الأفعال والتصرفات المباحة، أي التي يستوي فعلها مع تركها في حكم الشرع، إنما تكون كذلك باعتبارها تصرفاتٍ فرديةً جزئية. أما بالنظر إليها في كُـلِّـيتـها وباعتبارها الإجمالي، فإن حكمها يتغير، وتتوارد في حقها الأحكام الأربعة الأخرى؛ فيمكن أن يكون حكمها الندب، أو الوجوب، أو الكراهة، أو التحريم.
معنى الجزئية والكلية
أولهما: قيام المكلف بالفعل المباح أو تركُه له: في المرة الواحدة، أو من حين لآخر، حسب حاجته ورغبته.
والثاني: صدور الفعل أو الترك المباح عن بعض أفراد الناس، لا عن مجموعهم.
وللكُلّية معنيان مقابلان:
أولهما: وقوع الفعل أو الترك من الفرد الواحد، لكن بصورة كاملة مطردة، أو غالبة.
والثاني: صدور الفعل أو الترك عن مجموع المكلفين وعامتهم.
وعلى هذا، فحكم الإباحة ينحصر في السلوك الجزئي، فرديا كان أو جماعيا. أما من حيث السلوك الكلي، فرديا كان أو جماعيا، فالحكم يختلف، ولكل حالة حكمها.
قال الشاطبي رحمه الله: “الإباحة بحسب الكلية والجزئية يتجاذبها الأحكام البواقي.
فالمباح يكون مباحا بالجزء، مطلوبا بالكل على جهة الندب أو الوجوب، ومباحا بالجزء، منهيا عنه بالكل على جهة الكراهة أو المنع. فهذه أربعة أقسام.
فالأول : كالتمتعِ بالطيبات من المأكل والمشرب والمركب والملبس، مما سوى الواجب من ذلك، والمندوبِ المطلوبِ في محاسن العبادات، أو المكروهِ في محاسن العادات؛ كالإسراف فهو مباح بالجزء، فلو تُرك بعضَ الأوقات مع القدرة عليه لكان جائزا، كما لو فُعل. ولو ترك جملة لكان على خلاف ما ندب الشرع إليه. ففي الحديث: إذا أوسع الله عليكم فأوسعوا على أنفسكم، وإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، رواه البخاري. وقوله في الآخر حين حسَّنَ من هيئته: أليس هذا أحسن؟ أخرجه مالك: أليس هذا خيرا؟ وقوله: إن الله جميل يحب الجمال، أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي، بعد قول الرجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، وكثير من ذلك. وهكذا لو ترك الناس كلهم ذلك لكان مكروها.
والثاني : كالأكل والشرب، ووطء الزوجات، والبيع والشراء، ووجوه الاكتسابات الجائزة؛ كقوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا) (أحل لكم صيد البحر وطعامه) (أحلت لكم بهيمة الأنعام)، وكثير من ذلك. كل هذه الأشياء مباحة بالجزء، أي إذا اختار أحد هذه الأشياء على ما سواها فذلك جائز، أو تركها الرجل في بعض الأحوال أو الأزمان، أو تركها بعض الناس، لم يقدح ذلك. فلو فرضنا تــرْكَ الناسِ كلِّهِم ذلك، لكان تركا لما هو من الضروريات المأمور بها، فكان الدخول فيها واجبا بالكل.
والثالث : كالتنزه في البساتين وسماع تغريد الحمام والغناءِ المباح واللعب المباح بالحمام أو غيرها، فمثل هذا مباح بالجزء، فإذا فعل يوما ما، أو في حالة ما، فلا حرج فيه. فإن فُعل دائما كان مكروها، ونُسب فاعله إلى قلة العقل، وإلى خلاف محاسن العادات، وإلى الإسراف في فعل ذلك المباح.
والرابع : كالمباحات التي تقدح في العدالة المداومةُ عليها، وإن كانت مباحة. فإنها لا تقدح إلا بعد أن يُعَدَّ صاحبُها خارجا عن هيآت أهل العدالة وأجريَ صاحبها مجرى الفساق، وإن لم يكن كذلك. وما ذلك إلا لذنب اقترفه شرعا. وقد قال الغزالي: إن المداومة على المباح قد تُصَيِّــرُه صغيرة، كما أن المداومة على الصغيرة تُصَيِّـرُها كبيرة. ومن هنا قيل: لا صغيرةَ مع الإصرار” .
وعلى هذا النهج قرر الشاطبي أيضا:
أن الفعل المندوب بالجزء، يكون واجبا بالكل؛ وذلك “كالأذان في المساجد الجوامع أو غيرها، وصلاة الجماعة، وصلاة العيدين، وصدقة التطوع، والنكاح، والوتر، والفجر، والعمرة، وسائر النوافل الرواتب. فإنها مندوب إليها بالجزء، ولو فُرض تركها جملة، لجُرح التارك لها…”.
وكذلك: “إذا كان الفعل مكروها بالجزء، كان ممنوعا بالكل؛ كاللعب بالشطرنج والنرد بغير مقامرة، وسماع الغناء المكروه؛ فإن مثل هذه الأشياء إذا وقعت على غير مداومة لم تقدح في العدالة، فإن داوم عليها قدحت في عدالته، وذلك دليل على المنع، بناء على أصل الغزالي…” .
وأما “أصل الغزالي”، هذا الذي بنى عليه الشاطبي، فهو قوله: “وكما أن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة، فكذلك بعض المباحات، بالمداومة تصير صغيرة؛ وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام، فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعاً، إذ فعله رسول الله ﷺ.
ومن هذا القبيل اللعب بالشطرنج فإنه مباح، ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة.
ومهما كان الغرض اللعبُ والتلذذ باللهو، فذلك إنما يباح لما فيه من ترويح القلب، إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات، لتنبعث دواعيه، فيشتغل في سائر الأوقات بالجد: في الدنيا كالكسب والتجارة، أو في الدين كالصلاة والقراءة.
واستحسان ذلك فيما بين تضاعيف الجد، كاستحسان الخال على الخد. ولو استوعبَتِ الخِـيلانُ في الوجه لشوهته، فما أقبح ذلك، فيعود الحُسن قبحاً بسبب الكثرة. فما كل حَسن يَـحْسُنُ كثيره، ولا كل مباح يباح كثيره، بل الخبز مباح، والاستكثار منه حرام” .
وبعد هذا العرض الوجيز لمسألة تغيرِ الأحكام واختلافِها – وخاصة منها المباح – ما بين حال الكلية وحال الجزئية، يمكننا استخلاص ما يلي:
المسألة قائمة على نظر مقاصدي، يستحضر ما للأحكام الشرعية من مناطات ومقاصد؛ فالحكم الشرعي إذا وضع للحالات الجزئية الفردية بأقدارها ومقاصدها، فلا يلزم أن يكون صالحا ومطابقا للديمومة والحالة الكلية. فلكل مقام مقال.
يقوم النظر في المسألة أيضا على حصيلة الحسابات والمآلات المصلحية للأفعال. من ذلك أن المردودية المصلحية للفعل الجزئي، تختلف اختلافا كبيرا عنها في الفعل الكلي، سواء في أثرها السلبي أو في أثرها الإيجابي. فمن هنا قد يعظم المباح الفردي ويتضاعف حتى يصير مندوبا أو واجبا على الصعيد الجماعي، وهكذا أيضا يصير المندوب واجبا، ويصير المكروه حراما، ويصير الإفراط أو الإدمان على بعض المباحات عملا مكروها أو حراما…
وعلى أساس هذا النظر، أمكن العلماءَ أن يقرروا حكم “الوجوب الكفائي”، لعدد من المباحات والمندوبات، الدينية والدنيوية… وتدخل هنا كافة المرافق والمصالح والوسائل والصناعات والعلوم والحِــرَف والوظائف العامة، المستحدثة في الحياة البشرية؛ فهي في أصلها من جملة الـمُـبـاحات الاختيارية، التي لا لزوم فيها شرعا، فمن شاء فعلها، ومن شاء تركها. ولكن الاعتبار المصلحي الكلي لها، ينقلها إلى مرتبة فروض الكفايات. فهي مباحات بالجزء، واجبات بالكل.
نقل الزركشي عن أبي طالب القضاعي ما يشبه الرد على الغزالي، وهو: أنه قال في كتابه (تحرير المقال في موازنة الأعمال): “إن الإصرار حكمه حكم ما أصر به عليه، فالإصرار على الصغيرة صغيرة. وقد جرى على ألسنة الصوفية: لا صغيرة مع الإصرار، وربما يُروى حديثا، ولا يصح” .
وهنا يجب أن نفرق أولا: بين الإصرار على المعصية بمعنى التمادي في ارتكابها وتكرارها مرة بعد أخرى، دون عزم محدد على الإقلاع عنها، وبين الإصرار الذي يعني المعاندة والعزم على فعل المعصية دون توقف ودون اكتراث بالتحريم الشرعي.
وأن نفرق ثانيا: بين حكم المعصية في كل مرة على حدة، فهذه يبقى حكمها الانفرادي كما هو مهما تكررت، وبين المعصية المكررة في مجملها وحسابها الإجمالي، وهذه هي الحالة التي تجعل من الصغيرة كبيرة. فمما لا شك فيه أن مجموعة من الصغائر تعطي – أو تساوي – كبيرة من الكبائر.
وبالمقابل، فإن تضييع عدد كثير من المندوبات أو من المباحات، أي: تضييعا كليا، يكون بمثابة تضييعِ واحدٍ من الواجبات.
لكن الفعل المنفرد، يبقى حكمه في كل مرة كما هو، مهما تكرر وكثر.