هل تساءلت يومًا كيف سيبدو مستقبل الإعلام الرقمي في عالم يسيطر عليه الذكاء الاصطناعي والمؤثرون؟ يقدم تقرير معهد رويترز للأخبار الرقمية 2025 م رؤية متعمقة لأبرز التحولات في سلوك الجمهور الإعلامي، من تراجع الثقة بالمؤسسات الإعلامية التقليدية إلى الاعتماد المتزايد على منصات التواصل الاجتماعي والمؤثرين كمصادر إخبارية رئيسية.

يواصل تقرير معهد رويترز للأخبار الرقمية لعام 2025 والصادر عن معهد رويترز للدراسات الصحفية بجامعة أكسفورد تقديمه لأدق التحليلات حول تطورات المشهد الإعلامي عالميًا. وفي نسخته لعام 2025، يرصد التقرير تحولات غير مسبوقة في طريقة استهلاك الأخبار، ومستويات الثقة بها، وتغير مصادرها، إضافة إلى تأثيرات الذكاء الاصطناعي والضغوط الاقتصادية التي تواجه غرف الأخبار.

منهجية البحث

اعتمد تقرير رويترز لعام 2025 على استطلاع رأي إلكتروني أجرته شركة YouGov بين يناير وفبراير 2025، وشارك فيه أكثر من 94,000 مستخدم نشط للإنترنت يمثلون 47 سوقًا إعلاميًا حول العالم. وشملت العينة مستخدمين من خلفيات ديموغرافية متنوعة، مع مراعاة التوازن بين الجنسين والفئات العمرية والأنماط التعليمية. ويهدف التقرير إلى مساعدة غرف الأخبار، وصنّاع السياسات، والباحثين، والمهتمين بالإعلام الرقمي على فهم الاتجاهات المتغيرة والتحديات الناشئة.

ويُركز التقرير على السلوك الإعلامي الرقمي أكثر من كونه استفتاءً عامًا حول الرأي العام السياسي أو الاجتماعي.

أولًا: تراجع استهلاك الأخبار وتغيّر السلوك الإعلامي

ورد في التقرير  أن هذا العام شهد انخفاضًا ملحوظًا في عدد المستخدمين الذين يدخلون مباشرة إلى المواقع الإخبارية أو يتابعون نشرات الأخبار التقليدية، مع تصاعد أنماط تجنّب الأخبار بشكل طوعي أو غير مباشر.

1. انخفاض التفاعل مع الأخبار التقليدية

تشير البيانات إلى أن عددًا متزايدًا من المستخدمين لم يعد يدخل بانتظام إلى المواقع الإخبارية أو يشاهد النشرات التقليدية. في بعض الأسواق، تصل نسبة من يتجنبون الأخبار بشكل جزئي أو كلي إلى ما يزيد عن 40%.

2. ازدياد ظاهرة “تجنّب الأخبار”

يعزف كثير من المستخدمين عن متابعة الأخبار بسبب محتواها السلبي أو المثير للقلق. هذا السلوك يظهر خصوصًا في الفئات العمرية الشابة.

3. تغيّر طريقة الوصول إلى الأخبار

يعتمد ما يقرب من ثلث المستخدمين على وسائل التواصل بدلًا من المواقع والتطبيقات الإخبارية. المحتوى القصير والبصري أصبح هو المفضّل، خاصة لدى فئة ما دون 35 عامًا.

ثانيا: صعود المؤثرين كمصادر إخبارية

وحول تحول المؤثرين كمصادر إخبارية ، ورد في التقرير “بينما تتراجع مكانة المذيعين والمراسلين، نجد أن المؤثرين الرقميين باتوا المصدر الأساسي للأخبار لدى فئة الشباب، الذين يثقون بشخصيات قريبة منهم أكثر من مؤسسات إعلامية مجهولة.”

ويوضح التقرير أن الجيل الجديد يعتمد بشكل متزايد على المؤثرين وصناع المحتوى للحصول على الأخبار. ما بين 15 إلى 20% من المستخدمين في بعض الدول يعتبرون المؤثرين مصدرًا رئيسيًا للأخبار. هذه الظاهرة بارزة في تطبيقات مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام.

ثالثا: وسائل التواصل الاجتماعي كمحور للأخبار

 يشير التقرير إلى أن تغيّر الخوارزميات أدى إلى تقليص ظهور محتوى المؤسسات الصحفية في خلاصات الأخبار، مما أجبر الناشرين على تعديل استراتيجياتهم لتتماشى مع أولويات المنصات.

  1. تغيّر خوارزميات المنصات : تراجع في ظهور الأخبار التقليدية في خلاصة الأخبار News Feed. الأولوية أصبحت للمحتوى الشخصي أو الترفيهي.
  2. (تيك توك) يتقدّم : نمو متسارع كمصدر للأخبار بين المراهقين والشباب. يستند نجاحه إلى الفيديو القصير والتفاعل السريع.

رابعا: الثقة في الأخبار والمؤسسات الإعلامية

أحد أهم المؤشرات  هذا العام، أن الجمهور لم يعد يثق بالضرورة بما يُنشر، بل بمن ينشر، مما يعيد تعريف المصداقية بناءً على العلاقات الشخصية أو الجهوية. 40% من المشاركين فقط يثقون بالأخبار، وأشار التقرير إلى أن الثقة في المؤسسات الرسمية أقل في الدول المنقسمة سياسيًا.

خامسا: الذكاء الاصطناعي ومستقبل الأخبار

بينما تفتح أدوات الذكاء الاصطناعي فرصًا جديدة لإنتاج أسرع وأكثر تخصيصًا، فإنها تثير أيضًا قلقًا عامًا حول الأصالة والتحيز وغياب الشفافية من حيث استخدام الذكاء الاصطناعي في التحرير، وتوليد النصوص، والترجمة، وتحليل البيانات. وعبر أكثر من 60% من المستخدمين عد ارتياحهم لفكرة توليد الأخبار بالذكاء الاصطناعي دون تدخل بشري.

سادسا: اقتصاديات الأخبار والاشتراكات الرقمية

أوضح تقرير معهد رويترز للأخبار الرقمية لعام 2025  أن النموذج الاقتصادي للصحافة الرقمية لا يزال هشًا، والاعتماد على الاشتراكات وحدها لا يُعد مستدامًا خارج أقلية من الأسواق.” 17% فقط من المستخدمين يدفعون للاشتراك، مع الإشارة إلى أعداد التبرعات والعضويات في ازدياد لكن تظل غير كافية.

سابعا: تطور البودكاست والفيديو الإخباري

يساهم الإنتاج الصوتي والمرئي في تقديم محتوى أكثر جذبًا وتفاعلية، لكنه يتطلب استثمارًا في المهارات والتقنيات والبنية التحتية. إنتاج “البودكاست” في نمو متواصل وكذلك إنتاج مقاطع الفيديو القصيرة تهيمن على المشهد مع ذلك لا غنى عن التقارير المعمّقة.

ثامنا: مستقبل الصحافة وأولويات غرف الأخبار

لتبقى الصحافة فاعلة، عليها أن توازن بين التكنولوجيا والقيم التحريرية، وبين السرعة والدقة، وبين التمويل والاستقلال. فالحاجة ملحة إلى اعتماد نماذج مرنة، شفافة، قابلة للتطور من أجل استعادة ثقة الجمهور عبر الشفافية والتواصل.

توصيات

يخلص التقرير إلى أن الصحافة في 2025 تقف على مفترق طرق. فهي مطالبة بإعادة تعريف دورها في بيئة يسيطر عليها المحتوى القصير والمؤثرون وخوارزميات المنصات.

ومن أبرز التوصيات:

  • تراجع الثقة والانخراط: تعاني وسائل الإعلام التقليدية من صعوبة في التواصل مع الجمهور، مع استمرار انخفاض الثقة وتراجع التفاعل، وثبات اشتراكات الأخبار الرقمية عند مستويات منخفضة. فقط 18% من عينة من 20 دولة يدعمون المنصات الرقمية ماليًا، وغالبية الجمهور لا يرى ما يدفعه للاشتراك.
  • هيمنة المنصات الرقمية والفيديو: أصبح الاعتماد على المنصات الاجتماعية، خاصة الفيديو (يوتيوب، تيك توك، إنستغرام)، هو السائد، بينما يتراجع دور التلفزيون والمطبوعات والمواقع التقليدية. تيك توك هو الأسرع نموًا كمصدر للأخبار، خاصة بين الشباب، بينما نضج البودكاست في الشمال العالمي كمصدر موثوق ومربح. ولذلك يجب تعزيز المهارات الرقمية للصحفيين في مجالات الفيديو القصير والبودكاست وتحليل البيانات.
  • صعود المؤثرين وتغيير مصادر الثقة: بات المؤثرون والشخصيات العامة يلعبون دورًا متزايدًا في تشكيل الرأي العام، خاصة لدى جيل Z. في كثير من الدول، يثق الجمهور بالمؤثرين أكثر من الصحفيين التقليديين، رغم افتقار معظمهم للخبرة الصحفية وعدم التزامهم بتدقيق الأخبار. فبناء استراتيجيات شفافية وثقة مع الجمهور خاصة الفئات الشابة حل مهم أمام هذه المشكلة.
  • تغلغل الذكاء الاصطناعي: الذكاء الاصطناعي أصبح لاعبًا رئيسيًا في إنتاج وتوزيع الأخبار، مع ظهور منصات مثل (ProRata.ai) التي تعوض الناشرين عن استخدام محتواهم في ملخصات الذكاء الاصطناعي. هناك توجه متزايد لبناء علاقات مع شركات الذكاء الاصطناعي مثل OpenAI وPerplexity، في مقابل تراجع أهمية فيسبوك كمنصة إخبارية. لذا قد يكون الاستثمار في أدوات الذكاء الاصطناعي ضمن ضوابط تحريرية صارمة أحد الحلول للتعامل مع المتغير الجديد على وسائل الإعلام.
  • تغير استراتيجيات الناشرين: هناك توجه متزايد نحو الاستثمار في الفيديو القصير، وتبني قنوات بديلة مثل واتساب ولينكدإن وGoogle Discover، مع تقليل الجهد على فيسبوك. كما يبرز التحدي في تمييز الأخبار الأصلية عن المحتوى الاصطناعي أو المضلل، وسط انفجار المحتوى على المنصات. وهنا تبرز فكرة التعاون مع المنصات الكبرى لإيجاد آليات عادلة لتوزيع الأخبار.
  • مخاوف مستقبلية: فقدان آلاف الوظائف في غرف الأخبار، وتخفيضات واسعة في مؤسسات كبرى مع تصاعد الهجمات السياسية على الإعلام وازدياد القيود القانونية. انخفضت نسبة قادة الإعلام الواثقين في مستقبل الصحافة من 47% في 2024 إلى 41% في 2025، وارتفعت نسبة غير الواثقين إلى 17%. تتركز المخاوف حول الاستقطاب السياسي، الضغوط المالية، وتراجع مكانة الإعلام التقليدي أمام الإعلام الاجتماعي والمؤثرين. لذلك على المؤسسات الإعلامية التفكير في تنويع مصادر الدخل الإعلامي عبر مزيج من الاشتراكات، الإعلانات، والرعاية.

بهذه الإجراءات، يمكن لغرف الأخبار أن تبقى حاضرة ومؤثرة في عالم يشهد تغيرات إعلامية متسارعة، دون أن تفقد رسالتها الجوهرية.

خلاصة

تقرير رويترز 2025 يرسم صورة لصناعة إعلامية تواجه أزمة ثقة وتغيرات هيكلية بفعل الذكاء الاصطناعي وصعود المؤثرين والمنصات الرقمية، مع تراجع دور الإعلام التقليدي. ويؤكد أن النجاة تتطلب التكيف السريع، الابتكار في الإنتاج والتوزيع، وبناء علاقات جديدة مع المنصات والتقنيات الناشئة.