حظي الحديث النبوي الشريف برعاية المسلمين، فابتكروا علوما اختص بها، في قبول الرواية، والحكم على الراوة، وأحاطوا كلام النبي –ﷺ- وأفعاله بقدر عظيم من التدقيق، حتى ليُخيل للبعض أنهم لن يقبلوا شيئا، من دقة المناهج والاشتراطات التي وضعوها في قبول الأحاديث، ولم يجعلوا الأحاديث على درجة واحدة في الصحة والقبول.
وقد نمى علم الحديث مع الزمن، وانفتاحه على كل معرفة وعلم جديد، وعرف المكتبة الإسلامية كتب الصحاح، مثل “البخاري” و”مسلم” و”الترمذي” وابن حبان” و”أبو داوود”،كما عرفت موسوعات شروح الأحاديث، وأمام هذا الانتاج الضخم جاء مشروع “صوت الرسول” لتعميق الصلة بين الذكاء الاصطناعي، وعلم الحديث، بحيث يساهم الذكاء الاصطناعي في إعطاء صيغة رقمية لدرجة صحة الحديث، وذلك بعد تغذية الذكاء بمناهج المحدثين، وعلم الرجال، وكتب الأحاديث، والانطلاق من ذلك الجهد الكبير للوصول إلى صيغة مكافئة، أو نسبة مئوية لدرجة صحة الحديث.
فكرة المشروع هي ثمرة جهد معرفي للبروفيسور محمد الحديدي، المتخصص في هندسة الاتصالات الرقمية وتكنولوجيا المعلومات بالجامعات الألمانية، والحاصل كذلك ليسانس الدراسات العربية والإسلامية من جامعة الأزهر، وحسب “الحديدي” فإن هناك ما يقرب من (750) ألف حديث منسوب إلى النبي-ﷺ- شاملة ما ورد في كتب التاريخ والطبقات، وهذا الكم الهائل يفرض الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي.
ويؤكد “الحديدي” أن هجمات الاستشرق لم تستطع أن تنل شيئا من القرآن الكريم، غير أن هؤلاء، ظنوا أن الحديث النبوي يشبه “البطن الرخو” في المعرفة الإسلامية، ومن ثم يمكن التشكيك في الحديث، ولم يدرك هؤلاء الجهود العظيمة التي بذلها علماء المسلمون على امتداد أكثر من (1300) عام، وعلى امتداد الخريطة الإسلامية لخدمة الحديث النبوي، والالتزام بمناهج صارمة في قبول الحديث، فلم يكن علماء الحديث مثل “حاطب ليل” يقبلون بأي شيء ما دام نُسب إلى النبي-ﷺ- ولكن مناهجهم كانت تبدو أقرب لرفض الحديث من قبوله، فلم يعتمدوا صحة نسب حديث للنبي-ﷺ- إلا بعد تصفيات مُحكمة[1]، لا تتهاون في أي شبهة أو شائبة سواء في متن الحديث أو في رواته.
لكن “الحديدي” يرى أن علماء المسلمين، ربما بذلوا جهدا أكبر لنقد رواة الحديث ورجاله، لسببين أساسيين، أولهما: أن صحة متن الحديث، يمكن الحكم عليها بوضوح من خلال معيارية القرآن الكريم، وثانيهما: أن في بداية تدوين الحديث ونشوء علمه، كانت فترة تاريخية وقعت فيها الفتن بين المسلمين، لذلك كان الحكم على الرجال والرواة، هو المحدد الأهم[2]، ولعل هذا ما جعل البعض يظن أن علماء الحديث أعطو اهتماما أكبر لعلم الإسناد.
وفي هذا الحوار تناقش شبكة “إسلام أون لاين” أهداف المشروع الطموح، مع البروفيسور “الحديدي” بعدما سجل براءته كاختراع، والذي الذي يأمل أن ينجزه خلال خمس سنوات.
هل يمكن الاستفادة من التقنيات الرقمية الحديثة، والذكاء الاصطناعي في خدمة الحديث النبوي؟
إن استخدام التقنيات الرقمية الحديثة وعلوم هندسة الاتصالات[3] والذكاء الاصطناعي في خدمة الحديث النبوي ممكنا بسبب الأصول الراسخات التي وضعها أئمة السلف الصالح في الحديث الشريف، والتي سبقوا بها عصورهم وابتكروا لها علوما على غير سابق لهم مثل علم الرواية والإسناد وعلم الرجال وعلم مصطلح الحديث وعلم فقه الحديث، هذه الأصول الراسخات وضعها أئمة الحديث- رضوان الله عليهم- والتي استعملوا فيها مباديء علوم هندسة الإتصالات من نمذجة السند ومباديء نظرية الإحتمالات ونظم الاتصال ومعالجة الإشارة وعلوم التعديل والتضمين وذلك قبل اختراع هذه العلوم في القرنين الثامن عشر والعشرين.
هذه الأصول التي وضعها الأوائل من السلف الصالح هي التي تمكننا من تطبيق التقنيات الحديثة في علم الحديث في الوقت الذي يصعب أو يستحيل تطبيقها على الكتب المقدسة الأخرى.
ويمكن النظر إلى “علم الحديث” على أنه من علوم القياس والمعايرة، التي تهدف الى قياس مدى صحة الحديث وتمييزه بمعيار، يوضح درجة الصحة والضعف، وتحديد مدى وقوة الإشارة، وصحة الرسالة التي وصلت إلينا، عن النبي-ﷺ-
تحدثتم عبر حوالي (12) لقاء على موقع اليوتيوب حول مشروع “صوت الرسول” وإمكانية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي..هل يمكن تقديم موجز لفكرة المشروع؟ وهل حقا يمكن أن يقدم إفادة لعلم الحديث؟
إن مشروع “صوت الرسول” يهدف إلى تطبيق التقنيات الحديثة في هندسة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي في علم مصطلح الحديث، الذي يختص بتصحيح وتضعيف الأحاديث النبوية الشريفة، والتي ما هي إلا إشارات وصلت إلينا منسوبة لحضرة النبي الأعظم- ﷺ- ويتعين علينا أن نحدد مدى قوتها أو ضعفها.
تم اختيار علمي “هندسة الاتصالات” و”علم الحديث” نظراً للتناغم الشديد، والتوافق الكبير بين هذين العلمين ، فهما يبحثان في دقة الإرسال وتقنية الاستقبال، والتحقق من قنوات الاتصال.
وهندسيا علم مصطلح الحديث هو علم لقياس قوة الإشارة المحمدية التي وصلت إلينا وتحديد مدى صحتها وقدر التشويش والضوضاء المحيط بها أو الإشارات الدخيلة عليها أو تأثير قناة الإتصال (السند) على ضبط وتنقية الإشارة الواصلة بين أيدينا. كل هذا هو أصول ومباديء في علوم هندسة الإتصالات ومعالجة الإشارة التي نستخدمها في نظم الاتصالات الحديثة وأجهزة الرادار والتصوير المسحي.
ومشروع “صوت الرسول” يستخدم كل هذه التقنيات لتطوير علم مصطلح الحديث الذي لم يتطور منذ ما يزيد عن الثمانمئة سنة وقيل عنه منذ قرون عديدة أنه نضج واحترق[4] !
علوم الآلـــة
هل يقدم مشروعكم معيارية جديدة للحكم على صحة الحديث النبوي؟
القياس وفق المنهج العلمي هو: إعطاء تقدير رقمي للأشياء أو الصفات أو الأشخاص موضع القياس، بوحدات معيارية متفق عليها، أما “المعايرة” فتعني: فحص أداة القياس لمعرفة مدى دقتها، لضمان دقة القياسات، ومن ثم فالمعيار: هو ما يتم القياس بناءً عليه، أما المقياس فهو ما يتم القياس به.
وعلم مصطلح الحديث هو علم قياس، أي من علوم الاشارة، ويدخل ضمن ما سمي بـ”علوم الآلة”[5]، فهو ليس من “علوم الغاية”، و”علوم الآلة” هي نتاج للبيئة التي يعيش فيها العلماء، فهي تحمل بصمة العصر وروحه، كما أنها ترتبط بالتحديات التي تواجه معارف وعلوم الأمة، و”علوم الآلة” إذا كانت قوية، كلما تعمق المقصد وقويت حجته، وإزداد حضوره حضاريا ومجتمعيا، كذلك من الضروري إدارك أن “علوم الآلة” هي نوع من الصنعة التي من الممكن تعلمها وإتقانها، وهي تتغير وتتسع دائرتها تبعا للحاجة الملحة بحسب الزمان.
ومشروع “صوت الرسول” يهدف إلى نقلة نوعية في علم المصطلح لتطوير النظام الرمزي المتبع لتصحيح الحديث ( صحيح – حسن – ضعيف ) إلى نظام مكافيء يعطي قيمة مكافئة تعبر عن مدى صحة الحديث (45% – 78% – 92%) تمكّن الفقهاء والأصوليين؛ بل والمؤرخين وعلماء التاريخ والسير من ضبط صلاحيات الاستدلال وحجية الحديث.
إن مشروع “صوت الرسول” يهدف بتطبيق تقنيات المعلومات والذكاء الاصطناعي إلى الحصول على تقييم عادل لنظام مستقر ثابت يخلو من انطباع الإمام والذي لا ينفصل بحال عن مذهبه الفقهي وميله العقائدي والفلسفي وانتمائه السياسي.
هل مشروع “صوت الرسول” يُقدم من خلال الذكاء الاصطناعي إمكانية الحكم على صحة الحديث متنا وسندا؟
-يُمكّن المشروع باستخدام الذكاء الاصطناعي من الحكم على صحة الحديث متنا وسندا بمنتهى الدقة والحيادية، وهنا يكون الاجتهاد في تطوير “علم الالة” ليمكننا من معرفة درجة صحة الحديث النبوي بنسبة مئوية “ديجيتال”، وليس من خلال من مجرد أسلوب لفظي أو رمزي ، مادمنا ننظر إلى الحديث النبوي على أنه إشارة من النبي –ﷺ-
هل يمكن للذكاء الاصطناعي في حال تطبيقه على علم الحديث أن يغير في فلسفة القياس في علم الحديث، ويقدم معيارية جديدة للحكم على صحة الحديث متنا وسندا؟
من أهم ما يميز نظم القياس وأنظمة الاتصالات ما يعرف بـالمرجعيات أو النموذجيات standards أو التوحيد القياسي، بمعنى أن ثمة جهة مرجعية تقوم بتحديد نموذجاً واضحاً لتعريف وحدة القياس وآليته تحديداً دقيقاً، وتعد “المرجعية” أو توحيد القياس في علم مصطلح الحديث، من التحديات التى تواجه هذا العلم، وتأتي أولى التحديات التي تواجه فكرة المرجعية، مسألة أن علم مصطلح الحديث يعتمد على النظام الرمزي اللفظي.
ويلاحظ أن هناك اختلافا في قواعد قبول الحديث ورده، واختلافا في تعيين درجة صحته أو ضعفه بين علماء الحديث، وقد عرف علم الحديث اجتهادات علمية لرفع الاختلاف في قبول الحديث النبوي، كذلك هناك اختلافات في قبول الحديث بين الأصوليين وبين أهل الحديث، وهو ما يعني أن علم مصطلح الحديث في أشد الحاجة الآن الى ما يعرف بالمرجعيات المعتمدة “Certified Standards”، لتعريف درجات صحة الحديث الرمزية التي تخضع لها كل نظم تصحيح القياس التي وضعتها الأئمة، ومن الضروري التأكيد على أن إنشاء standards لا يعني هدم نظم القياس الموجودة، وهو ما يفرض الاستفادة من العلوم الحديثة في هندسة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات لإيجاد نظام نموذج مرجعي يمكننا من خلاله تحديد وحدة قياس جامعة لصحة الحديث.
[1] الامام البخاري انتخب صحيحه الذي يربو على ستة آلاف حديث من بين ستمائة ألف حديث
[2] ينسب إلى “ابن سيرين” وهو من علماء الحديث، قوله: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قيل لهم سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ منهم وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ منهم”.
[3] هندسة الاتصالات فتتكون من خمسة فروع، هي نظرية الإحتمالات ، معالجة الإشارة، نظم الإتصال ، الإرسال والتعديل، أنظمة الشبكات.
[4] مقولة ذكرها الإمام “الزركشي” في كتابه “المنثور في القواعد الفقهية” والتي وصف فيها علم الحديث، على أنه من العلوم التي “نضجت واحترقت”
[5] “علوم الآلة”: هي علوم يُتوسل بها لفهم علوم الغاية والمقصد، ومن علوم الغاية علم العقيدة والتوحيد والتفسير ، ومن علوم الآلة: النحو، والصرف، والبلاغة، والتجويد.