إن مسألة الاستدلال القرآني على وجود الله سبحانه وتعالى تتحدد ضرورتها بحسب مستوى الوعي والإدراك عند كل شخص على حدة، وبحسب صفاء أدوات المعرفة عند هذا أو ذاك، وهي كما يقول عباس محمود العقاد “مسألة وعي قبل كل شيء، فالإنسان له وعي يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية، ولا يخلو من وعي يقيني بالوجود الأعظم والحقيقة الكونية، لأنه متصل بهذا الوجود، بل قائم عليه والوعي والعقل لا يتناقضان، وإن كان الوعي أعم من العقل في إدراكه لأنه مستمد من كيان الإنسان كله، ومن ظاهره وباطنه، وما يعيه ولا يعيه، ولكنه يقوم به قياما مجملا محتاجا إلى التفصيل والتفسير” .
أولا: مسألة وجود الله بين ضرورة الاستدلال وشعور الوجدان
مسألة وجود الله هي المسألة الرئيسة التي يتلازم في إثباتها الشعور الوجداني والحكم العقلي والحسي تلازما ذاتيا لا ينبغي إسقاط أحدها على حساب الآخر، إلا أن الأسبقية تكون فيها للشعور الوجداني أو الوعي كما عبر عنها العقاد، لأن الشعور أقرب في استنتاجاته إلى الصواب من مقدمات العقل وحدوده ومعطيات الحس وتلوناته.
ولهذا فإذا كان بعض الملحدين لم يستطيعوا أن يدركوا وجود الله تعالى بوجداناتهم وعقولهم وحواسهم، فليس هذا العمى عن الإدراك سببه غياب وجوده تعالى، وإنما التغييب سببه آفة أصابت أدوات الإدراك وتوظيفاتها في غير محلها مما يقلب أحكامها ولا يضعها حسب متعلقاتها، كمثال المريض بالصفراء الذي تنقلب عنده حلاوة العسل مرارة، كما يقول الشاعر:
ومن يـك ذا فـم مر مـريـض ** يـجـد مرابـه المـاء الـزلالا
وليس من حق الخفافيش والوطاويط أن تنكر وجود الشمس بسبب أنها لا تدركها أبصارها بل إن الخفافيش لو سألناها عن الشمس لأقرت بوجودها رغم أنها لا تراها، لأنها تحس آثار حرارتها بأداة غير أداة الإبصار، وبذلك تكون الخفافيش أو الوطاويط أسلم حكما وعقلا من الملحدين الذي لم يستفيدوا لا من عقولهم ولا مشاعرهم ولا أحاسيسهم.
ولقد كان الكلام في وجود الله عند الفلاسفة الأقدمين من قبيل الكلام في مباحث العلوم وتفسير الظواهر الطبيعية، فأرسطو مثلا لم يثبت وجود الله ليقنع به منكرا يدين بالكفر والإلحاد، ولكنه أثبته لأن تفسيره لظواهر الكون لا يتم بغير هذا الاثبات، فليس وجود الله عند أرسطو وأمثاله مسألة غيبية يختلف الأمر فيها بين الإثبات والنفي كاختلاف الهدى والضلال، ولكنها حقيقة عقلية كالحقائق الهندسية يتم بها تصور الحركات والأشكال في الأفلاك والسموات” .
والقرآن الكريم حينما تطرق لمسألة وجود الله فقد عرض لها بصورة كاملة، لأنه كلام الله الهادي لكل الخلق أجمعين، ولهذا فقد جمع في مخاطبته للمكلفين بكل أصنافهم بين خطاب الوجدان والعقل والحواس معا، وذلك باعتبار مستويات الناس الإدراكية وتفاوتاتهم المعرفية، فكان التقرير وكان البرهان، وكان مرة بالدعوة إلى النظر في العالم الخارجي ومرة بالنظر في العالم الداخلي أو النفسي كما في قوله تعالى، “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.
ثانيا: تلازم اليقيني والبرهاني في الخطاب القرآني
وإذا كان العقل لا يستقل بحكمه ويحتاج في إصداره إلى ما يعطيه إياه الشعور والحواس ويمده به من مكتسبات، فإنه بهذا الاحتياج يكون الأحوط له هو الإثبات لا النفي والإيمان لا الكفر، إذ أن الحواس لا تتعدى جزئياتها المحدودة، وهذه الجزئيات عليها ينبني حكم العقل فيقيس من خلالها ما غاب عنه، فالبصر مثلا “يدرك الألوان والمتلونات والأشخاص على حد معلوم من القرب والبعد، فالذي يدرك منه على ميل غير الذي يدرك منه على ميلين، والذي يدرك منه على عشرين باعا غير الذي يدرك على ميل، والذي يدرك منه ويده في يده يقابله غير الذي يدرك منه على عشرين باعا، فالذي يدرك منه على ميلين شخص لا يدري هل هو إنسان أو شجرة وعلى ميل يعرف أنه إنسان وعلى عشرين باعا أنه أبيض أو أسود وعلى المقابلة أزرق أو أكحل، وهكذا سائر الحواس في مدركاتها من القرب والبعد”.
ولكن رغم هذا التفاوت في الإدراكات الحسية عند الإنسان بحسب القرب والبعد، واليقظة والغفلة، فإن الأحكام العقلية تظل ثابتة ومحايدة لا تصدر إلا بحسب المعطيات الحسية المتوفرة لديها وهذه الثوابت هي التي استقر عليها العقلاء والمفكرون وعبروا عنها بالعلم بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات، وهذا العلم يؤسس مبدأ عدم التناقض في الحكم على القضايا، وهو يدخل في إطار العلم الضروري عند الإنسان والذي يتحصل عليه منذ طفولته إدراكا أو إجراء، وقد قسمت هذه الأحكام العقلية بحسب تعلقها بالمعلومات ومطابقتها لها، وهي حكم الجواز يقابل الجائز، وحكم الاستحالة يقابل المستحيل وحكم الوجوب يقابل الواجب، وليس وراء هذه الأحكام العقلية حكم رابع.
وهذه الأحكام إذا تطابقت مع معلوماتها أعطت العلم الضروري الذي ينبغي أن تتفق عليه جميع عقول البشر، وأن الخلاف لا يقع إلا إذا أسقط الحكم على غير المعلوم المطابق والمقتضي له، ولهذا فأغلب الاختلافات الفكرية بين الناس ليس مصدرها الحكم العقلي من حيث هو حكم ثابت، وإنما مصدرها وضع الحكم العقلي في غير محله ومتعلقه المحكوم عليه، وهذا راجع كما قلت إلى استعداد الأشخاص ومستويات اهتماماتهم وإدراكاتهم الكلية أو الجزئية للموضوع: “فمن الناس من يكون في سرعة التصور وجودته في غاية يباين بها غيره مباينة كثيرة وحينئذ فيتصور الطرفين (في قضية ما) تصورا تاما بحيث يتبين بذلك التصور التام اللوازم التي لا تتبين لمن لم يتصوره، وكون الوسط الذي هو الدليل قد يفتقر إليه في بعض القضايا بعض الناس دون البعض أمر بين فإن كثيرا من الناس تكون عنده القضية حسية أو مجربة أو برهانية أو متواترة، وغيره إنما عرفها بالنظر والاستدلال، ولهذا كثير من الناس لا يحتاج في ثبوت المحمول للموضوع إلى دليل بنفسه بل لغيره، ويبين ذلك لغيره بأدلة هو غني عنها حتى يضرب له أمثالا” .
والقرآن الكريم حينما خاطب الناس وبرهن على خطابه كان برهانه يشمل كل الاستعدادات والفطر، فهو قد خاطب العالم وغير العالم، وخاطب صاحب الحكمة والجدلي والخطابي، ولكنه في نفس الوقت جمع بين هذه الفئات جمعا متساويا في خطاب واحد، يستفيد منه كل واحد، بحسب استعداده وضرورته، وإذا كان العرف عند المناطقة والفلاسفة يقتضي “أن الجدلي ما سلم والمخاطب مقدماته والخطابي ما كانت مقدماته مشهورة بين الناس والبرهاني ما كانت مقدماته معلومة، فإن كثيرا من المقدمات تكون مع كونها خطابية أو جدلية يقينية برهانية، بل وكذلك مع كونها شعرية هي من جهة التيقن بها تسمى برهانية ومن جهة شهرتها عند عموم الناس وقبولها لهم تسمى خطابية ومن جهة تسليم الشخص المعين لها تسمى جدلية” .
وقد تضمن القرآن الكريم في كل آية من آياته وطرق استدلالاته عرض اليقينيات لا غير، إذ مصدر القرآن العلم الإلهي، وهذا العلم لا يحتمل التسليم الجدلي ولا التقليد الخطابي كتأسيس معرفي، وإنما هو علم يقيني صاغه العليم الخبير الذي “أحاط بكل شيء علما”. فجاء مرة من حيث المنهج على صورة تقرير خطابي ومرة على شكل جدل إقناعي، ومرة على هيئة تقسيم وحصر برهاني، وكل هذه الصور الدلالية كما يقول ابن رشد: “إذا تؤملت وجدت في الأكثر قد جمعت وصفين: أحدهما أن تكون يقينية والثاني أن تكون بسيطة غير مركبة، أعني قليلة المقدمات فتكون نتائجها قريبة من المقدمات الأول” .
ولهذا كما يذهب إليه ابن تيمية “قد أخطأ المتكلم في ظنه أن طريقة القرآن توافق طريقته من وجوه منها: أن إثبات الصانع في القرآن بنفس آياته التي يستلزم العلم بها العلم به كاستلزام العلم بالشعاع العلم بالشمس من غير احتياج إلى قياس كلي يقال فيه: وكل محدث فلا بد له من محدث أو كل ممكن فلا بد له من مرجح أو كل حركة فلا بد لها من علة غائية أو فاعلية، ومن غير احتياج إلى أن يقال سبب الافتقار إلى الصانع هل هو الحدوث فقط كما يقول المعتزلة؟ أو الإمكان كما يقوله الجمهور؟ حتى يرتبوا عليه أن الثاني حال باقية مفتقر إلى الصانع على القول الثاني الصحيح دون الأول” .
وإنه لوصف دقيق هذا الذي وصف به ابن تيمية البرهان في القرآن، إذ مثل له بالشمس وهو يتوافق جدا مع تعبير ابن رشد السابق والذي يرى فيه أن المقدمات أقرب ما تكون إلى النتائج في القرآن الكريم، وفي نظري أن هذا التمثيل بالشمس له بعد آخر وهو أن الشمس لها طابع توليدي ذاتي للشعاع والطاقة، وذلك من خلال فرضية الاندماج الذري (أو بروتون بروتون) كما يتخيله الفلكيون والفيزيائيون ، وإذا كانت الشمس الحسية تتعرض بتوليداتها هاته المفترضة إلى نوع من الذبول والانتقاصات إلا أن الشمس القرآنية على العكس من ذلك فهي كلما تقدم الزمن ازداد شعاعها، وتولدت عنها طاقات معرفية وإدراكات يقينية يتحصل عليها كل متعرض لها صادق في تعرضه.
فالقرآن في حد ذاته برهان، وهو بهذه الصفة الخطاب الوحيد الذي يضمن النتائج الصحيحة في كل ما يعرضه من استدلالات. لأن مقدماته وطريقة عرضها بسيطة وفطرية، ولهذا فعلى أية صيغة طرح أدلته أدت هذه الأدلة إلى التصور الصحيح والتصديق اليقيني الجازم. وليس ضروريا بأن يعرض قضاياه بطريقة ضيقة على شكل حدود وأقيسة مفتعلة حتى يمكن أن تسمى قضاياه برهانية، إذ اعتبار البرهانية وعدم اعتباره كما قلنا رهين بالاستعداد الشخصي، فما يعتبر برهانا في نظر هذا قد لا يعتبر كذلك في نظر ذاك، وقد تكون المسألة برهانية مائة بالمائة غير أنها لا تؤدي إلى الاقتناع عند بعض الأشخاص نظرا لضعف استعدادهم أو لمرض نفسي حال دون الاعتراف بالحقيقة والإقرار بها كما في قول الله تعالى “ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون”. وقوله: “وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا”.
ومسألة إثبات وجود الله هي المسألة التي تعددت عنها البراهين، ولهذا فالطرق البرهانية على هذا الإثبات جد متنوعة، ولا ينبغي أن يسلك في هذه المسألة طريقا واحدا مقيدا ويقول الشخص “لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق: ولا يكون الأمر كما قاله في النفي وإن كان مصيبا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج يسر الله على عقول الناس معرفة أدلته، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وإعلام النبوة وأدلتها كثيرة جدا وطرق الناس في معرفتها كثيرة” ولهذا كانت طريقة الاستدلال القرآني تصلح للعامي كما للعالم ويستفيد منها السريع الذكاء وبطيئه، كل له مشربه وكل له تحمله اللهم إلا من كان من المعرضين المريضين.