تنسل من الذاكرة لتقتحم خطابنا اليومي، فنحتمي بها لتأييد موقف أو انطباع أو حكم، وفي الغالب لتبرير أخطائنا حين تنحرف عن معيار الصواب. تلك هي الأمثال التي تفوه بها الحكماء والساسة والشعراء، بل حتى أنصاف العقلاء. وأضحت من أهم تعبيراتنا الثقافية، وشواهد موروثنا التاريخي و الاجتماعي أيضا.

مما عابه القرآن على أهل الشرك، فيما يتعلق بمنظومتهم الوثنية، وهشاشة القيم التي تحكم سلوكهم ومواقفهم، أنهم يُمجدون اتباع الآباء، ويفخرون بتمثال المرمر الذي نحتته أهواء السلف وتمثلاته وصراعاته؛ دون أن ينصتوا لنبض التساؤل، ويعتمدوا على حسهم النقدي في تقييم الأوضاع، ومراجعة التصورات والأحكام. وهذا الاتكاء على مفعول السلف يُقيّد الحركة ويعطل عجلة الحياة. فالمرء مدعو للتجاوز، واعتبار الماضي سجلا فقط للمشاهدات والوقائع التي تصحح قراره ومساره. وليست الأمثال سوى صفحة من هذا السجل، ينتفع بما تضمنته في حدود ما يغني تجربته، ويعزز قيمه وأداءه.

يُولد المَثَل حين يتطابق بعض الكلام مع وقائع عامة في حياة الناس، ثم يدور بينهم فيشتهر، سواء كان عبارة لها جمالية خاصة من حيث الإيجاز وانتقاء اللفظ المناسب، أو بيتَ شعر تفتقت عنه موهبة شاعر حنكته التجارب، أو دلّته المشاهدة على رأي سديد.

 وبمضي الزمان، وانتقال المثل من جغرافيته الخاصة إلى فضاءات أخرى، تنقطع الصلة في الغالب بين القول وأسبابه، وبين العبارة والحادثة التي تمخضت عنها؛ مما حذا بعدد من علماء العربية لدراسة الأمثال وشرحها، ورصد الوقائع والأحداث التي اكتنفت ولادتها. ويأتي في مقدمة هؤلاء: الميداني، والمفضل الضبي، وابن السكيت، والرازي الذي تنبه إلى حمولتها التربوية والأخلاقية، فانتخب منها ما يوافق الدين، ويحقق مقصد التزكية والاعتبار.

لم يقنع الأديب واللغوي محمد بن أبي بكر الرازي بما سبق إليه علماء العربية المهتمون بالأمثال قبله. فأغلب مؤلفاتهم لم تخرج عن مقصد الجمع والشرح، وتحديد أسباب النزول. لذا نجده في مؤلفه ( الأمثال والحكم)، والذي صحح مخطوطته وأخرجها الدكتور فيروز حريرجي سنة 1408هـ ، يتبع منهجا مبتكرا يعتمد الترتيب الموضوعي للأمثال المنظومة، والاهتمام بدلالاتها الدينية والأخلاقية التي تحقق تربية العقول وتزكية النفوس.

رتب الرازي مصنفه على عشرة فصول تجمع بين الحِكم الدينية والدنيوية، فعرض فيها أمثالا تتناول الزهديات، والتأمل في مقاصد الخلق وتدبير المعاش الإنساني. أما الدنيوية منها فتعزز حضور الأخلاق في المجتمع، وترشد إلى أنماط التصرف الحَذِر في السراء والضراء. وجاء ترتيب الفصول على النحو الآتي :

– ما يُتمثل به في التوجه إلى الله تعالى

– الزهديات

– القناعة وشرف النفس

-التسلي والتعزي

– الغزل والمدح والشكر

– العتاب والشكوى

– الهجو والتوبيخ

– المُلَح

– أشياء مختلفات.

وتحت كل عنوان أدرج المؤلف عشرات الأبيات المنتقاة من شعر الجاهلية والإسلام، تلمس فيها معان وتوجيهات تهذب الموقف والسلوك دون أن تتعارض مع منظومة القيم الإسلامية، مما أكسب مصنفه هذا سمة الأدب التعليمي.

في فصل الأسباب عن موجدها يتمثل الرازي قول أبي نواس:

إذا كان غير الله للمرء عُدة

أتته الرزايا في وجوه الفوائد

وفي حسن الظن بالله يستحضر قول محمد بن وهيب :

وإني لأرجو الله حتى كأنني

أرى بجميل الظن ما الله صانع

و يحذر من طول الأمل متمثلا قول العماد الأصفهاني :

ولم أر شيئا مثل دائرة المنى

تُوسعها الآمال والعمر ضيق

أما عن القناعة فإن بيت محمود الوراق يصحح ثقافة الاستهلاك التي أرهقت مجتمعاتنا حين يقول :

وإذا غلا عليّ شيء تركته

 فيكون أرخص ما يكون إذا غلا

وفي فن المداراة الذي يحفظ العلاقات الإنسانية، يتمثل الرازي قول ابن الصائغ:

ما دمتَ حيا فدار الناس كلهم 

فإنما أنت في دار المداراة 

وعن حقيقة الحِلم يتمثل قول الوزير المغربي :

وليس حليما من تُقبَّل كفه

 فيرضى، ولكن من تُعضُّ فيحلُم     

ويكشف أبو تمام فلسفة الرزق التي تُحير بعض العقول حتى اليوم بقوله:

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجى

 هلكن إذاٌ من جهلهن البهائم

وحين تضطرب الفتوى ويتولاها من ليس لها بأهل يصدق قول المتنبي:

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة

ويستحل دم الحجاج في الحرم

وفي نهب الثروات يقول آخر:

يُحلب عنزي وأكون الذي

يرضى من العنز بقرنين

تنبه الرازي إلى دور الأمثال في ترسيخ المبادئ، وتعزيز الرصيد القيمي للفرد، فكانت اختياراته حتى في الغزل والشكوى منسجمة مع مقصد التهذيب والتزكية. ولعل سعيه لإحداث نوع من الغربلة لهو مؤشر على إدراكه للوظيفة الاجتماعية للأمثال، كشكل تعبيري ينقل صورة حية عن العلاقات السائدة داخل المجتمع.

إن سهولة تداول الأمثال كوصفة جاهزة في مواقف الحياة الاجتماعية، يُكسبها صفة الرقيب على سلوك الفرد، بحيث توجهه وفق ما تمليه تجربة سابقة. ومكمن الخطورة هو في طبيعة تلك التجربة ومصدرها، فليست كل تجربة ذاتية جديرة بأن يتخذها الناس مثلا يضبط سلوكهم أو مواقفهم. ولو ألقينا نظرة على الأمثال الشعبية التي يتداولها أبناء كل بلد على حدة، لعثرنا على كم هائل من صيغ التحيز والعرقية، واستبعاد الآخر أو كراهيته، والنظرة السلبية في مواجهة تقلبات الحياة اليومية.

لكن ما يشغل البال تحديدا هو حجم التداول الذي تشهده بعض الأقوال المأثورة، وانطباعات الفنانين والأدباء وحتى السفهاء، ممن يحظون بقدر من الشهرة والتأثير في المجتمع. وهذا التداول الذي غصت به اليوم منصات التواصل الاجتماعي، يعج بمواقف وآراء مجردة من المبادئ والقيم، ومُبشرة بعهد جديد من الأنانية والسلبية وتفتيت العلاقات الإنسانية.

بعض هذه الأقوال والأمثال المصطنعة يعزز الموقف البغيض من المرأة، باعتبارها رمز الشر وعنوان الرذيلة.  

وبعضها الآخر يسخر من رابطة الزواج ومقومات الحياة الأسرية.

وحزمة ثالثة لا ترى في التفاعل الإنساني غير الضرر والإنهاك و المرارة.

ورابعة ترى السعادة في الإقبال على الشهوات دون قيد أو شرط.

وخلف هذي وتلك أصابع تنقر على لوحة المفاتيح، لتعرض الأمثال” الجديدة” بوسائل جذابة، وقوالب رقمية مبدعة، تُحرض على تقاسمها ونشرها كعلاج للهموم والشواغل اليومية.

إن الأمثال كما يقول الأبشيهي في مستطرفه، من أشرف ما وصل به اللبيب خطابه، وحلى بجواهره كتابه. ويكفيها فخرا أن كتاب الله تعالى نطق بكثير منها في محكم آياته، مما يدل على أن حضورها في مفردات التخاطب اليومي له وقع أشبه بالسحر. لذا فإن تجديد العناية بها يسد ثغرة على صعيد الهوية والخصوصية، ويتيح للأولاد إطلالة مهذبة على منطق الأجداد، يتناسب فيها الموروث مع مبادئ الشريعة الغراء. فشتان بين حكمة تستلهم التجربة الإنسانية، وأقوال مضطربة يخيل إليهم من السحر أنها ترقى !