المداراة توجيه نبوي يخفض منسوب التوتر بين الأفراد، ويبدد شيئا من مظاهر الشحناء التي تُحركها الصراحة الفظة، أو معاملة الناس على شاكلة واحدة، دون مراعاة ما تقتضيه الطبائع والمشارب المختلفة.

هي قاعدة أخلاقية تسعف المسلم حين يضج واقعه بالتناقضات، وتصبح المفارقة عنوان السلوك اليومي لمن حوله. حيث تتطلب منه المواقف حِسا عاليا في إبداء الرأي وإسداء النصيحة، دون لفظ جارح أو تأنيب يقرع النفس كالسياط.

وهي أيضا تجلّ رائع للعلاقات العامة من منظور إسلامي، وللأصول التي تحدد مهارات التعامل مع فئات المجتمع، قبل أن ينسب العالم الحديث ريادة هذا المجال ل” إيفي لي” و”إدوارد بيرنيز” مطلع القرن العشرين!

 تنبني المداراة على تصور مفاده أن المجتمع مركب من أفراد متعددي الميول والمشارب. وأن إيمانهم بفكرة أو مبدأ لا يبدد اختلافهم في زاوية النظر وسبل التنفيذ. ومن مقتضيات المخالطة الصائبة البحث عن حدود التلاقي، وإظهار اللين وطول البال. لذا نجد أن تعريفات السلف المتعددة للمداراة تلتقي في مجملها حول معاني اللين واللطف، وتحمل أفعال البشر.

أخرج البزار بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله عنه: رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس.

  ويُعرفها المناوي في (فيض القدير) بأنها خفض الجناح ولين الكلمة، وترك الإغلاظ في القول، وإظهار الرضا بما هم فيه إلا ما كان منكرا وباطلا، فإنه إن أبدى الرضا ولو بتحريك الرأس كان منافقا.

أما عند أبي حامد الغزالي فإن المداراة هي جهد المؤمن حين يُبتلى بالمخالطة، وتتحقق بقطع الطمع في مال الناس وجاههم ومعونتهم. وعلى المُخالط أن يقيس الأفعال بميزان الأعذار لا العيوب، فلا يذم طعاما ولا ينهر خادما، ولا يطمع في تغيير شيء من جِبلات (طباع) الناس إلا ما اقتضاه التعليم.

يتطلب تشعب العلاقات الإنسانية إذن تأقلما مستمرا وحرصا دؤوبا على إظهار اللين وكسب الرضا، إلا فيما يمس الدين ومنظومة القيم، أو يخدش المروءة. لأن إبداء الرضا والتساهل في هذه الحالة ينقل المرء إلى مربع المُداهنة، بما تعنيه من قبول بالأوضاع المائلة، وتطبيع مع ألوان التدين المنقوص أو الزائف. والفرق بينهما أن المداراة مسايرة للطبع الإنساني بغية تصويبه برفق ولين، أو على الأقل كف أذاه حرصا على تماسك المجتمع. أما المداهنة فهي تزكية لألوان الهدم التي تطال البناء المجتمعي، والرضا بمعايشتها دون إنكار.

من مأثورات عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : خالِطوا الناس بالأخلاق وزَايلُوهم بالأعمال. بمعنى أن تتفاعل مع من حولك بالخلق المنصوص عليه في الكتاب والسنة، مع ما يقتضيه ذلك من اجتناب الأفعال التي لا ترضي الله، حتى وإن جرى التطبيع معها بأية ذريعة كانت. وهذه المقولة العمرية كأنها تومئ إلى ما سيكتنف المجتمع الإسلامي من مؤثرات سلوكية، نجم بعضها عن إحياء الروح الجاهلية، بينما تولد البعض الآخر عن الاتصال الثقافي بالبلدان التي امتد إليها الفتح الإسلامي. فكان للمداراة بُعد وقائي يضمن تماسك المجتمع على رقعة جغرافية آخذة في الاتساع. قلقُ المسلمين آنذاك من تبعات المخالطة، وبدءُ التفكير في اعتزال الناس، جعل للمداراة حضورا ملموسا في الخطاب اليومي الموجه للفرد أو للجماعة على السواء. فكان الرجل يأتي شيخا فقيها أو محدثا ليُطلعه على عزمه اجتناب الناس، فيرد قائلا: لا تفعل، إنه لابد للناس منك، ولابد لك منهم، لك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج. ولكن كن فيهم أصمّ سميعا، أعمى بصيرا، سَكوتا نَطوقا !

ويخطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أصحابه يوما فيقول: كونوا في الناس كالنحلة في الطب؛ فإنه ليس شيء من الطير إلا يستضعفها، ولو يعلم ما في أجوافها لم يفعل. خالقوا الناس بأخلاقكم وألسنتكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم !

وامتدت المداراة إلى داخل الأسر كوسيلة للتخلص من المواقف الحرجة، وتجنب ردود أفعال قد تفسد العلاقة وتوَرّث الريبة. وفي الحديث الشريف تأكيد على المداراة التي تخفف من وطأة المشاكل الأسرية، حيث خطب سمرة بن جندب يوما فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ألا إن المرأة خلقت من ضلع، وإنك إن أردت إقامة الضلع كسرتها، فدارِها تعش بها، فدارِها تعِش بها».

ولها أيضا نصيب من الفضل إن أحسنت مداراة الزوج الغاضب، ودفعت بالاحتمال وإظهار الرضا ما يشوب العلاقة من كدر أو اهتزاز، بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نساؤكم من أهل الجنة الوَدود الوَلود، التي إذا آذت أو أوذيت أتت زوجها حتى تضع يدها في كفه فتقول: لا أذوق غمضا حتى ترضى».

في المداراة إذن مفتاح لاستقرار العلاقات واستمرارها، وتجاوز عن العثرات التي لا تخلو منها حركة ابن آدم على وجه الأرض. وسواء تعلق الأمر بالزوجة، أو الصديق، أو المعلم، أو الجار، أو سيء الخلق الذي يُكدّر صفو الحارة، فإن المداراة صدقة تدفع البلاء، ومن لم يحتمل زلل الخلق مات وحيدا !

تُعزز المداراة أسباب الألفة في عالم تسيل دماؤه لمجرد اختلاف في الرأي والفكرة. ونحن اليوم أحوجَ ما نكون إلى خلق المداراة، لتصحيح الخطأ، وتهذيب السلوك، وتبديد المخاوف التي تنتاب المسلم المعاصر في علاقته بالآخر.