ربما يصعب التعريف بقيمة هذا الرجل وعطائه نظرا لطبيعة تخصصه، ولكن لمن هم بعيدون عن حقل الدراسات اللغوية يكفي أن نقول: حين كنا طلابا في قسم اللغة العربية كان يذكر لنا ثلاثة كتب هي الأهم في دراسة العربية: “الكتاب” لسيبويه وهو المؤسس للنحو العربي، و”دلائل الإعجاز” للإمام عبد القاهر الجرجاني.. ثم كتاب “اللغة العربية معناها ومبناها” لتمام حسان.
ولولا طبيعة الزمان وأن المعاصرة حجاب لبويع تمام حسان أميرا ومجددا للنحو العربي وللدراسات اللغوية الحديثة في عالمنا العربي.
فالعالم الكبير الدكتور تمام حسان – رحمه الله – هو صاحب أول وأجرأ محاولة لترتيب الأفكار والنظريات اللغوية في اللغة العربية بعد سيبويه وعبد القاهر الجرجاني، وربما لم يوضع كتاب لغوي حديث ضمن قائمة أمهات كتب العربية إلا كتابه “اللغة العربية معناها ومبناها”، وقد وصفه غير قليل من علماء اللغة العرب بذلك، منهم مثلا سعد مصلوح، ويطلق عليه “الكتاب الجديد” بعد كتاب سيبويه الذي سمي بـ”الكتاب” كما لو كان أصل كتب العربية وأهمها.
نظرية متكاملة
وفي هذا الكتاب -كما في بقية كتبه- قدم الدكتور تمام حسان نظرية متكاملة في دراسة اللغة العربية خالف فيها ما استقر عليه الأمر في هذا الشأن من لدن سيبويه إلى عصره، ورفض نظرية العامل التي بنى عليها سيبويه (في القرن الثاني الهجري) النحو العربي وتابعه عليها الأولون والآخرون. وصاغ تمام حسان بديلا عنه نظرية “القرائن اللغوية”، فجاوز بها كل علماء العربية، حتى من سبقوه بنقدها ورفضها.
وكان سيبويه في نظرية العامل التي شيد على أساسها النحو قد عد العلامة الإعرابية هي القرينة الوحيدة لفهم المعنى، وعلى خطاه سار النحويون ولم يخرج عنهم إلا القليل ممن انتقدوها مثل ابن مضاء القرطبي (في القرن السادس الهجري)، ولكن ظل الأمر قيد النقد الجزئي الذي يدور داخل النظرية من دون أن يستطيع منها فكاكا حتى فعلها تمام حسان الذي أعاد صياغة النظام النحوي العربي كله على أساس فكرة تضافر القرائن اللغوية في تحديد المعنى وعدم انفراد العلامة الإعرابية به إذ اعتبرها مجرد قرينة واحدة يمكن أن تختفي في بعض الأحوال، فلا تستطيع تحديد المعني.
وهو ما يستلزم في رأيه اللجوء إلى قرائن أخرى توضح المعنى وتجليه، وقد حدد تمام حسان عددا من القرائن التي لا بد منها (مثل قرائن: الرتبة، التضام، الربط، الضمائر، البنية، النغمة، أمن اللبس، مستوى الصواب والخطأ، التماثل الصوتي)؛ فالرتبة تقول إن ما يلي الفعل مثلا هو الفاعل ما لم يحدث استثناء، وقرينة التضام تعتمد على افتقار الكلمة لأخرى بعدها (مثل الموصول لصلة الجار لمجرور.. وهكذا بما يعين في فهم المعنى دون البحث عن العلامة الإعرابية).
لقد بنى حسان بهذه النظرية للنحو نظاما متماسكا قوامه القرائن المعنوية واللفظية بعد أن كان النحو في نظر الدارسين تحليلا إعرابيا فحـسب، ولهذه النظرية الجديدة أهمية كبرى لا يمكن تبينها إلا حين تقرأ تطبيقاتها على فهم وتفسير القرآن الكريم؛ وهو ما أنجزه تمام حسان في كتابه الرائع “البيان في روائع القرآن” والذي هو تطبيق عملي لنظريته.
تجديد دراسة اللغة
هذه المقدمة النظرية لا بد منها للتعريف بالرجل، فهو عالمٌ فضّل أن يهجر الدنيا لنظريته ومشروعه فلم يُعن بكتابة المقالات العامة أو الحديث في كل شيء كما يفعل الكثيرون، بل نذر حياته -بلغ الثامنة والثمانين أمد الله في عمره- لفكرة واحدة: تجديد دراسة اللغة العربية.. ومن أجلها هانت عليه حياة هي أقرب للرهبنة.
كانت معرفتي الأولى بالعالم الجليل تمام حسان تشابه الأسماء الذي طالما كان محل تساؤل من أساتذتي في قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية، ثم تعرفت عليه عبر قراءة مدرسية لكتابه “اللغة العربية مبناها ومعناها” لم تكشف لي عن قيمته التي لم أعرفها إلا حين تركت دراسة اللغة العربية وعملت بالصحافة، وظل في مخيلتي أشبه بأبي عمرو بن العلاء وسيبويه والخليل بن أحمد وأعلام العربية.. وربما كان اسمه التراثي المنغم سببا في هذا الشعور، وقد سعيت زمنا للقائه وزيارته.
ولما قابلته في بيته أول مرة تأكد لي صدق مشاعري؛ إذ رأيتني بإزاء رجل تعلوه هيبة ووقار تؤكده ملامحه الجادة، وبنيانه الجسماني القوي الذي يستدعي صورة القدماء، وكرمه ودفء لقائه الذي سيبين لك سريعا عن أصوله الصعيدية.
ما غاب عن خيالي من صورة تمام حسان هو المكتبة وطريقه عمله، فقد كنت أتصوره غارقا في الكتب القديمة والمخطوطات والأوراق المبعثرة، فإذا به يصطحبني لغرفة مكتب بسيطة وأنيقة ومنظمة، ثم هو يجلس على مكتبه ويفتح جهاز الكمبيوتر الخاص به ليراجع معي آخر بحث له في علم الصوتيات، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها شيخا تجاوز الثمانين يكتب أبحاثه ويراجعها بنفسه من الكمبيوتر!.
رحلة عطاء حافلة
وقبل أن نتحدث عن مشروعه لا بد من بعض المعلومات التي ربما تكشف صورة تمام حسان وقيمة مشروعه الفكري:
- فتمام حسان المولود في 27 من يناير عام 1918 في الكرنك بمحافظة قنا أقصى صعيد مصر، ينتمي إلى الجيل الذهبي من علماء الأمة الذين أتيح لهم التكوين الديني والعلمي الرصين والمبكر؛ فقد حفظ القرآن الكريم وجوّده على قراءة حفص وتم له ذلك في عام 1929.
- ثم غادر قريته في الكرنك ليلتحق بمعهد القاهرة الديني الأزهري في عام 1930.
- ومنه حصل على الشهادة الأزهرية في عام 1934، ثم الثانوية الأزهرية عام 1935.
- وبعدها التحق بمدرسة دار العلوم العليا عام 1939، ومنها حصل على دبلوم دار العلوم عام 1943.
- ثم حصل على إجازة التدريس من دار العلوم عام 1945.
- ولم يكد تمام حسان يبدأ حياته العملية معلما للغة العربية بمدرسة النقراشي النموذجية عام 1945، حتى نال بعثة علمية للدراسة بجامعة لندن عام 1946 ليحصل منها على الماجستير والدكتوراة في علوم اللغة.
- وعقب عودته من رحلته العلمية عُـيِّـن تمام حسان مدرسا بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة في أغسطس 1952، كما انتدب مستشارا ثقافيا بسفارة الجمهورية العربية المتحدة في العاصمة النيجيرية لاجوس 1961.
- وحين عاد إلى مصر في عام 1965 شغل منصبي رئيس القسم ووكيل كلية دار العلوم، قبل أن يتولى عمادتها عام 1972.
- وقد أسس الدكتور تمام حسان الجمعية اللغوية المصرية عام 1972 وكان أول رئيس لها، وأنشأ أول قسم للدراسات اللغوية بجامعة الخرطوم في السودان وكان أول رئيس له، كما أسس بجامعة أم القرى قسم التخصص اللغوي والتربوي الذي كان أول قسم لتخريج معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها.
- تولى تمام حسان أمانة اللجنة الدائمة للغة العربية بالمجلس الأعلى للجامعات المصرية، وانتخب عضوا بمجمع اللغة العربية عام 1980.
مؤلفات فاتحة
ولتمام حسان عدد من المؤلفات التي يشكل كل مؤلف منها فتحا جديدا في بابه، ومن أشهر مؤلفاته: مناهج البحث في اللغة، واللغة بين المعيارية والوصفية، واللغة العربية: معناها ومبناها، والأصول، والتمهيد لاكتساب اللغة العربية لغير الناطقين بها، ومقالات في اللغة والأدب، والبيان في روائع القرآن، والخلاصة النحوية… إضافة إلى عشرات المقالات والدراسات والبحوث التي نشرت في الدوريات العربية المتخصصة أو قدمت في المؤتمرات العلمية.
وله عدد من الكتب المترجمة من أهمها: “مسالك الثقافة الإغريقية إلى العرب”، و”الفكر العربي ومكانته في التاريخ”، و”اللغة في المجتمع”، و”أثر العلم في المجتمع”، و”النص والخطاب والإجراء”. كما شارك بجهوده في لجنة ترجمة معاني القرآن الكريم التابعة لرابطة العالم الإسلامي بمكة.
وقد أشرف الدكتور تمام حسان على عشرات الرسائل العلمية في عدد من الجامعات المصرية والعربية مثل: القاهرة والإسكندرية والخرطوم ومحمد الخامس ومحمد بن عبد الله بفاس والكويت وأم القرى والإمام محمد بن سعود واليرموك والمستنصرية. وقد أودع معظم هذه الرسائل نظريته اللغوية المعروفة بتضافر القرائن والتي يوجزها كتابه “اللغة العربية معناها ومبناها”؛ وهو ما أوجد بين تلاميذه مدرسة فكرية خاصة في حقل الدراسات اللغوية العربية، توسعت عبر أجيال جديدة من الباحثين والطلاب في كثير من الدول العربية.
ريادة في النقل
ينسب إلى تمام حسان الريادة في نقل النظريات اللغوية الحديثة إلى العالم العربي والإسلامي وتطبيقها على دراسة اللغة العربية؛ حيث درس مبكرا في أوربا وتتلمذ على أهم اللغويين الغربيين، مثل أستاذه المباشر العالم البريطاني “فيرث” صاحب نظرية السياق، وكان أول معالم مشروعه اللغوي تطبيق المناهج الغربية في دراسة الصوتيات على بعض اللهجات العربية، فنال الماجستير من جامعة لندن عن دراسته الصوتية للهجة مدينة الكرنك بمسقط رأسه (محافظة قنا)، كما نال الدكتوراة من الجامعة نفسها في دراسة صوتية أيضا للهجة مدينة عدن باليمن.
وفي رسالته للدكتوراة نراه يعيد سيرة علماء العربية الأوائل؛ حيث قضى 6 أشهر في عدن يجمع ويدرس لهجة أهلها كما كان يفعل اللغويون القدامى في دراستهم للغات البوادي والقبائل، كما كان أهم عالم عربي طبق “البنيوية” في دراسة اللغة العربية، وخاصة النحو العربي، وهو منهج يقوم على دراسة العلاقات بين الأشياء وليس الأشياء نفسها، وهو ما استفاد منه فيما بعد في بناء نظريته “القرائن اللغوية” وطورها لوضع نظرية جديدة لدراسة النحو العربي، كانت في الحقيقة أول نظرية لدراسة النحو العربي بعد سيبويه.
أوليات تمامية
وحين يذكر تمام حسان تستدعي أوليات نسبت إليه؛ فهو أول من استنبط موازين التنغيم وقواعد النبر في اللغة العربية؛ حيث لم تكن مدروسة قبله وكانت تدرس فقط في اللغات الأجنبية الرئيسية، وقد أنجز ذلك في أثناء عمله في الماجستير والدكتوراة وشرحه في كتابه “مناهج البحث في اللغة” عام 1955.
وهو أول عالم لغوي في العالم يدرس “المعجم” باعتباره نظاما لغويا متكاملا تربطه علاقات محددة وليس مجموعة مفردات أو كلمات كما كان المستقر عالميا؛ فهو الذي نبه إلى فكرة النظام اللغوي للمعجم، وأن هناك كلمات تفرض الكلمات التي تستعمل معها؛ فهناك أفعال لا بد لها من فاعل وأخرى لا بد أن يكون فاعلها عاقلا.
وهو أول عالم لغوي عربي يخالف البصريين والكوفيين في دراسة الاشتقاق حين اقترح “فاء الكلمة وعينها ولامها”، كأصل للاشتقاق في حين كان أصل الاشتقاق عند البصرة “المصدر”، وأصله عند الكوفة “الفعل الماضي.
وهو أول من أعاد تقسيم الكلام العربي على أساس المبنى والمعنى رافضا التقسيم الثلاثي (اسم، فعل، حرف)، وجعل التقسيم سباعيا (اسم، فعل، صفة، ظرف، ضمير، خالفة، حرف) بحسب السلوك النحوي الخاص بكل قسم.
وكان أول من فرّق بين الزمن النحوي والزمن الصرفي، فقال بالزمن الصرفي الذي هو وظيفة الصيغة المفردة من دون جملة (ماض، مضارع، أمر) والزمن النحوي الذي يختلف عنه وقد يخالفه، مثلما هو الحال في قوله تعالى {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب…} فهو زمن مضارع صرفيا لكنه ماض نحويا.
كما كان تمام حسان من أكثر علماء العربية الذي سعوا إلى التضييق على فكرة الشذوذ والندرة وعدم القياس التي اعتادها النحويون، والتي تهدر ميراثا لغويا وتؤدي إلى جمود اللغة؛ فقال بالترخص في القرائن المبنية على تضافر القرائن في إيضاح المعنى وزيادة بعضها عن الحاجة إلى الإفادة، كما كشف عن نوع من الاستعمال يخالف القواعد ولكنه يقاس عليه، وأطلق عليه اسم الأسلوب العدولي.
تكريم وشهرة ناقصة
ورغم كثرة أوليات تمام حسان، فإن محصوله من التكريم والشهرة قليل بما لا يوازي ما ناله تلامذته، فسجله من التكريم يقول إنه حصل في عام 1972على الجائزة الأولى في مسابقة مكتب تنسيق التعريب بالرباط، وحصل على جائزة آل بصير الدولية عام 1984، وحصل على جائزة صدام للآداب عام 1987.. إلى أن كرم أخيرا بحصوله على جائزة الملك فيصل العالمية في العام المنصرم 2005.
والدكتور تمام حسان (أبو هانئ) تشرف به الجوائز قبل أن يشرف بها، وهي سعت إليه ولم يسع إليها بل ظل عاكفا في محراب علمه مستصغرا ما دونه، ويكفي مصداقا لذلك أنه لا يكاد يظهر في الحياة العامة إلا نادرا ولا تكاد تعرف كاميرات التليفزيون طريقها إليه.
وفاته
توفي في صباح يوم الثلاثاء 11 أكتوبر 2011 م بعد مرض قصير وعملية جراحية بالمخ رحم الله الفقيد وتغمده برحمته وأدخله جناته.
وللاستزادة حول جهود الدكتور تمام حسان ومشروعه الفكري:
- “العربية وعلم اللغة البنيوي: دراسة في الفكر اللغوي العربي الحديث” – للدكتور حلمي خليل- دار المعرفة الجامعية.
- والكتاب التذكاري الصادر عن الدكتور تمام حسان- مكتبة عالم الكتب.
حسام تمام