هل كانت للمسلمين فلسفة أم أنهم مجرد مقلدين لفلاسفة اليونان؟ هذا سؤال أثيرت حوله الآراء التي تزعم أن الإسلام ضد التفكير وضد العقل، وتدعي أن القرآن الكريم أحكامُهُ قسرية حالت دون ارتقاء العقول، ومن هنا وجدنا أبناء الأمة الإسلامية يردُّون تلك الشبهات، ويوضحون مدى احترام الإسلام للعقل، وكيف أن الإسلام هو دين الحرية، بل عاب القرآن على من يعطلون عقولهم فقال سبحانه: {… لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
حول هذه القضية صدر كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” عن لجنة التأليف والترجمة، ثم عن الهيئة العامة المصرية للكتاب 2007م، لمؤلفه الشيخ مصطفى عبد الرازق (ت 1947م) أول أستاذ مصري للفلسفة بجامعة القاهرة، الذي تولى عضوية مجمع اللغة العربية ووزارة الأوقاف ومشيخة الأزهر.
وأوضح المؤلف مفهوم الفلسفة الإسلامية، وأنها تشمل علم الكلام وعلم أصول الفقه، موضحًا فضل مفكري الإسلام في التفكير والابتكار فى الفلسفة بأوسع معانيها، ونحا منحى جديدًا في دراسة الفلسفة الإسلامية، وأرسى دعائم مدرسة كانت الحياة الفلسفية أحوج ما تكون إليها، وتحدث الشيخ من خلال فصول الكتاب العديدة عن تعريف الفلسفة وتقسيمها عند الإسلاميين، كما تحدث عن بداية التفكير الفلسفى الإسلامي، وتناول النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه، وكذلك القياس والاجتهاد والرأي، وراح يحلل تاريخ علم الكلام، ويتحدث عن مسائل العقيدة في عهد الرسول -ﷺ- وعهد الخلفاء الراشدين، وعهد الأمويين والعباسيين، وكيف كان القياس موجودًا على عهد رسول الله، وكيف قاس الصحابة الكرام وكيف اجتهدوا، مستشهدًا بحديث معاذ بن جبل حينما أرسله النبي الكريم إلى اليمن، ذاكرًا موقف الصحابة في غزوة بني قريظة، وكيف أنهم اجتهدوا في أداء صلاة العصر أو تأخيرها حتى الوصول إلى ديار بني قريظة، وكيف أقرَّ النبي الكريم الجميع على اجتهاده…إلخ.
وفنّد الشيخ مصطفى عبد الرازق آراء المستشرقين حول الفلسفة الإسلامية ووضح موقفه من هذه الآراء، وناقش الكثير من الأحكام التى نادى بها أصحاب النزعة العِرْقية، زاعمين أن الجنس السامي أقل من الجنس الآري قدرةً وذكاءً، ومن ثم زعموا أن العرب لا يرقون إلى مستوى التفكير والإبداع والشعر، وأن السلالة الآرية التى تنتمى إليها الأمم الأوروبية هي وحدها الصفوة المؤهلة للرقي وللسيادة، وإليها يُردُّ كل ما له قيمة فى تاريخ المعرفة والحضارة، أما العرب –في زعمهم- فهم أخلص أنواع الجنس السامي الذي يتميز بميله الفطري إلى إدراك المفردات وحْدَها، ولا قِبَل لهم باستخلاص قضايا وقوانين، ولا بالوصول إلى فروض ونظريات معرفية، وأن ما ينسبه العرب لأنفسهم من فلسفة أو معرفة إسلامية خاصة بهم ليس إلا مجرد محاكاة أو تقليد لفلاسفة اليونان، وضربٌ من التكرار لآراء وأفكار يونانية صيغت باللغة العربية، حيث قال: “فإن الناظر فيما بذل الغربيون من جهود في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها لا يسعه إلا الإعجاب بصبرهم ونشاطهم، وسعة اطلاعهم وحسن طريقتهم”، إلا أنهم كانوا “كأنما يقصدون إلى استخلاص عناصر أجنبية في هذه الفلسفة؛ ليردوها إلى مصدر غير عربي ولا إسلامي، وليكشفوا عن أثرها في توجيه الفكر الإسلامي”، فمثلاً زعموا أن الفقه الإسلامي مأخوذ من القانون الروماني!!
وظهر أثر جهود مصطفى عبد الرازق في جيل الرواد العرب والمسلمين ومن تتلمذ على أيديهم في أيامنا هذه، ومنهم على سبيل المثال د. علي سامي النشار -رحمه الله- الذي أخذ على عاتقه إحياء الفكر الأشعري، والدكتور محمود قاسم –رحمه الله- الذي أخذ على عاتقه إحياء فكر المعتزلة بنظرة موضوعية، كما أشار لذلك الدكتور علي سامي النشار في مقدمة كتابه “نشأة الفكر الفلسفي”.
قسَّم المؤلف كتابه إلى قسمين: الأول تناول فيه مقالات الغربيين والإسلاميين في الفلسفة الإسلامية، تناول في الفصل الأول منه مقالات الغربيين، مبينًا مناهجهم في هذا الصدد، وتناول في الفصل الثاني مقالات الإسلاميين، مستخلصًا أنهم “يزنون الفلسفة بميزان الدين”، كما عرض آراء هؤلاء الذين رفضوا الفلسفة بكل ما فيها، وكذلك انتقد الذين حولوا البحث الفلسفي إلى مباحث جدلية ومساجلات كلامية لا تنتج جديدًا، أما الفصل الثالث فتحدث فيه عن تعريف الفلسفة وتقسميها عند الإسلاميين، وفي الفصل الرابع تناول الصلة بين الدين والفلسفة عند الإسلاميين.
أما القسم الثاني من الكتاب فتحدث عن منهج الشيخ في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية، حيث تناول في الفصل الأول منه بداية التفكير الفلسفي الإسلامي، وأن الفلسفة إنما تبدأ مع بداية معناها لا مصطلحها أي مع بداية التفكير الإسلامي، وحكمة العرب نوع من التفلسف، وكذلك مناقشات المسلمين الدينية لاستخلاص الأحكام، وفي الفصل الثاني تحدث الشيخ عن النظريات المختلفة في الفقه الإسلامي وتاريخه وفي الفصل الثالث تناول الرأي وأطواره، وتحدث المؤلف عن جهود الإمام الشافعي في الرسالة، وهي الكتاب الذي وضعه كمعيار للحكم الشرعي، ودعا الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى إدخال “علم أصول الفقه” ضمن مباحث الفلسفة الإسلامية، وقال إن هذا العلم يمثل الفلسفة الإسلامية الأصيلة الخالية من أي شوائب أجنبية، حيث إن أصول الفقه بمثابة منطق أرسطو عند اليونان.
وفي نهاية الكتاب عرض المؤلف “ضميمة” في علم الكلام (علم أصول الدين)، تحدَّث فيها عن تاريخ علم الكلام وتعريفه وألقاب هذا العلم لدى مفكري الإسلام، وتحدث أيضًا عن تناول مسائل العقائد الدينية في عهد رسول الله ﷺ وصحابته رضي الله عنهم، وفي عهد الأمويين والعباسيين.
وختامًا فإن كتاب “تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية” ذو أهمية كبرى؛ لأنه عالج الكثير من القضايا التي تثار على الساحة الإعلامية والثقافية، ورد على الدعاوى التي تزعم محاربة الإسلام للفكر والنظر العقلي.