هي المرة الأولى التي يكتب فيها الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في السياسة وقضاياها وأحداثها، بعد أن كان يأخذ مسافة من الواقع ويحلق بعيدا عن قيوده وجاذبيته لينظر إلى باطن الوقائع، ليبحث عن الأفكار التي تقف وراء الأحداث وتحركها، فالتأمل يعكر صفوه كثرة ملاحقة الوقائع، لكن الذي غير موقفه هو تغير حال الأمة العربية والإسلامية التي باتت تتعرض لأخطار تهدد وجودها، على جبهات ثلاث، هي التفريط في القدس، وتصارع الحكام المسلمين على النفوذ، والاقتتال بين العرب وبعضهم البعض، خاصة وأنه لم يرى اقترابا فلسفيا من هذه التحديات الثلاث، فمن يكتب ينظر إليها من التاريخ أو السياسة وليس من منظور فلسفي.
ففي كتاب “ثغور المرابطة:مقاربات ائتمانية لصراعات الأمة الحالية” للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، والصادر عن مركز مغارب، بالرباط في طبعته الأولى عام 2018، في 250 صفحة، معالجة فلسفية لقضايا السياسية العربية الكبرى، محاولا استيفاء شرطين مفقودين في الكتابات الفلسفية العربية:
– استثمار الطاقة البيانية اللسانية العربية، لا في تبليغ الأفكار فحسب، ولكن في تشكيل هذه الأفكار.
-التوسل بأدوات المنطق في تحليل الأفكار وترتيبها، لأن الكتابات الفلسفية إذا خلت من المنهج صارت إلى الاضمحلال، والفيلسوف له مقاربة تأملية تستكشف آفاقا تتسامى على الظواهر والأحداث، نظرا لأن مناهج المؤرخين والسياسيين لا تستوعبها، غير أن الكتاب لم يكتف بالوصف والتفلسف، ولكن قفز خطوة إلى الأمام لبيان الوسائل العملية للتغلب على التحديات التي تسببت في خلق تلك الوقائع، فكتاب “ثغور المرابطة” كما يصفه مؤلفه هو: عمل توجيهي بقدر ما هو عمل توصيفي، إذ أنه بُني على أصول النظرية الائتمانية، وهي في الأساس نظرية أخلاقية معيارية توجيهية تجيب على الأسئلة التي تتعلق بالسلوك في الحياة، وتدل على ما ينفع وما يضر، وعلى ما يُسعد وما يُشقي.
ونبه طه عبد الرحمن أن البعض سينظر إلى توجيهاته أنها تجنح للمثالية، إلا أن الحقيقة أنه لا أخلاق بلا مثالية، وأن إرادة الإنسان أقوى من إكراهات الواقع، فالتوحيد في بدء الرسالة جاء إلى أمة تعرف تعدد الآلهة، فخرجوا من تلك العبادات إلى الوحدانية في سنوات معدودة، فأصبحت الوحدانية هي الواقع الذي لا يزول، ونتوقف في هذه المقالة عند ثغر الصراع العربي الإسرائيلي.
ثغر الصراع العربي الإسرائيلي
أحد الثغور التي تحدث عنها الكتاب هو الصراع العربي الإسرائيلي، فيصف “إسرائيل” بأنها تشبه “الشر المطلق”، أما الإنسان الفلسطيني فله خصوصية ليست لسواه، فأرضه “ملتقى العوالم” الشهادة والغيب، ومقاربته تاريخيا أو قانونيا أو سياسيا تسقط بعضا من عوالمه، والإيذاء الإسرائيلي للفلسطينيين يتجه إلى إيذاء الأرض التي بارك الله فيها، وإيذاء الإرث التي أنتجته الفطرة، فهناك إيذاء للخالق وإيذاء للإنسان، وكلا الإيذاءين يخصان الإنسانية وليس الفلسطينيين وحدهم.
ويمكن القول إن إيذاء الإله له تاريخ طويل في بني إسرائيل، فهم يخالفون أمره، وينقضون عهده وميثاقه، ويقترفون نواهيه، ويؤذون أنبيائه والصالحين من عباده، والذاكرة تحدد مسلك الإسرائيليين في حاضرهم، لذا نجدهم عادوا إلى إيذاء الإله إحياء لماضيهم الغابر، وهم ينازعون الإله في صفة “المالك”، فالإسرائيليون أرادوا أن يستأثروا بصفة التملك دون غيرهم من الناس، واستوى عندهم المِلك والوجود، فمن لا يملك ليس له الحق أن يُوجد، والإسرائيليون لجئوا إلى كل الوسائل التي تقودهم إلى امتلاك الأرض المباركة، مستشعرين أنهم يضاهون الإله في صفة التملك والتصرف في الملك، لذا كان وجودهم في فلسطين هو “إحلال” وليس “احتلال”، فهم يسعون للاستيلاء على الأرض وعلى ما فوقها وما تحتها، فيبنون المستوطنات، ويقيمون الجدران العازلة، ويستولون على المياه الجوفية، ويبحثون عن الحفريات في باطن الأرض، وحدود دولتهم تحت أقدام جيوشهم، فالقوة هي التي تخلق الحدود.
ويتحلى إيذاء الإنسان عند الإسرائيليين، في أنهم يشغبون على الفطرة قلبا وطمسا، والفطرة هي الذاكرة التي تحفظ القيم والمعاني الأصيلة المبثوثة في روح الإنسان منذ خلقه، نازلة من الروح منزلة الجوهر.
والإحلال الإسرائيلي هو إفساد لفطرة الفلسطيني بما يجعله يتلقى بالقبول مفاسد احتلال أرضه اغتصابا وتهجيرا وتدميرا، فهو “قلب للقيم” وعبث بقدرات الإنسان الواقع تحت احتلالهم حتى يرى الحق الذي معه باطلا، ويرى الباطل الذي معهم حقا، فتفسد بذلك الذاكرة والمعتقد وتفتر الهمة عند الفلسطيني، فيستوي عنده حضور الذاكرة وغيابها، فتختل علاقته بالماضي، كذلك تفسد الثقة بالذات، فيفقد الفلسطيني ثقته بقدراته الذاتية على التغيير أو ييأس من دفع المظالم المرتكبة في حقه مستسلما لقدره، تحت شعار الواقعية السياسية، ويفسد التوجه: فيضطرب الفلسطيني في اختياراته وأولوياته، فلا ينعقد قلبه على شيء، ولا يحسم شيئا، ولا يتجه إلى شيء، فيفقد القبلة والبوصلة معا، فيتنازع بين الخيارات المتعارضة كـ “الاندماج في المجتمع الإسرائيلي أو الاحتفاظ بخصوصيته، أو التمسك بخيار المفاوضة أم خيار المقاومة.
ولتأكيد هذا الاختلال يعمل الإسرائيليون على تشتيت الفلسطيني حتى يستغرق في مصالحه الخاصة، وعلاقاته العامة وروابطه الخارجية، فتختل علاقته بمستقبله، كما تختل علاقة الفلسطيني بالزمان في أبعاده الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، ومن ثم تختل علاقته بالمكان، ثم تصل النهاية بسلب الفطر، التي هي نهاية الإفساد.
التطبيع وسلب الفطرة
وتحدث الكتاب عن التطبيع واعتبره اجتثاث وسلب للفطرة، فهو يجعل وجود الإحلال الإسرائيلي له مشروعية ، فتحجب الفطرة على الحقائق الملكوتية، وتحل مكانها الأساطير الإسرائيلية الباطلة، فيقع استبدال الفاسد والوهم بالصحيح والحقيقي، وهنا تغيب الحكمة، فيتعلق الفلسطيني بالمعرفة الإسرائيلية التي تضره ولا تنفعه، فتضيع القداسة، فيتساوى عند الفلسطيني احتلال المسجد الأقصى واحتلال غيره من المساجد، وبالتالي لا يتورع هذا المُطبع عن تدنيس المقدس وتحريف المُنزل، ومن رفع القدسية عن “بيت المقدس” يهون عليه أن يرفعها عن “الكعبة”، فالمطبع لا يتوب عن تطبيعه حتى يرسخه ويصير له سجية.
والتطبيع ما هو إلا فقدان للحياء، ونسيان للنظر الإلهي الذي هو أصل الحياء، وفقدان الحياء هو آفة متعدية تتجه إلى نزع الحياء عن الآخرين في صراحة ووقاحة، ومع حدوث ذلك يغيب الضمير، ويُفقد الوازع الأخلاقي، فيصير الحق عنده هو القوة فقط، كما أن المطبع لا يكون إلا ذليلا مذلولا، فلا يجد إلا النفاق ملجأ يمارسه على أوسع نطاق لأن ذاته مستلبة، أضحت ذاتا إسرائيلية لكنها توقن أنها ذاتا دونية، والتطبيع ما هو إلا تضييع للطبيعة، فتضيع الروح أي الفطرة، وتضيع القداسة أي الحياء
ويرى الكتاب أن مواجهة إيذاء الإسرائيليين للإله وللإنسان تكون بدايته من تجديد قداسة الأرض، وتطهير الفطرة من الزيف، وهذا التطهير المزدوج لا تقدر عليه إلا المقاومة التي تأخذ بالمبدأ الائتماني، الذي يرى أنه لا نهاية للاحتلال الإسرائيلي إلا بنهايتين “نهاية دنس الأرض” و”نهاية زيف الفطرة”
وهنا تكون المرابطة المقدسية، و”المرابطة” هي ملازم ثغر يُخشى هجوم العدو منه، كي لا يباغت الآمنين، وحتى إذا هوجم تتم مقاومته، ومن ثم فالمقاومة فضاء مادي وفضاء معنوي روحي أيضا، بل إن حضور المقاومة في الروح والوجدان اقوي من حضورها الحسي، وتستمد المقاومة مددها من ميراثها الروحي العميق الموصول بالأنبياء والصالحين عبر التاريخ، وتلك المرابطة المقدسية تتوسل بالإسراء والمعراج وسيلتين لمقاومة التدنيس والتزييف.
ويرفض طه عبد الرحمن مبدأ “الأرض مقابل السلام” ويؤكد أن قداسة الأرض تمتنع على الملكية، والفلسطيني مطالب بحفظ القداسة لأنه مؤتمن عليها، والفلسطيني تمسكه بقدسية الأرض يغلب على تمسكه بملكيتها، فالملكية عنده تابعة للقدسية، وحتى يتحقق ذلك يتوجب على الفلسطيني ألا يُقر بشرعية الكيان الإسرائيلي فلابد من نزع اللباس المؤسسي وهو الدولة عن ذلك الكيان، فلابد من زعزعة ثقته في مشروعية دولته، وإن لم يستطع الفلسطيني ذلك فلابد أن يشكك في مستقبل وجودها الذي يمهد لنهايتها على غرار الحالة الصليبية.