تحدثنا من ذي قبل عن ثقافة التمرير، وكانت الرسائل المتنقلة بين مستخدمي الإنترنت لب الحدث أو أساس تلك الثقافة التي ظهرت مع توسع الناس في استخدام الإنترنت وتمرير الرسائل الإلكترونية بين بعضهم البعض، وتحدثنا عن إيجابياتها وسلبياتها.
طالبنا في حديثنا ذاك عن ثقافة التمرير بضرورة التحقق من دقة وصحة أية رسالة تصلنا قبل تمريرها للآخرين، مهما كانت النوايا والدوافع، من أجل الحفاظ على استمرار المصداقية والثقة في علاقة بعضنا ببعض في عصر الإنترنت والفضائيات، التي أفرزت لنا بجانب ثقافة التمرير، ثقافة أخرى قديمة ولكن متجددة بصورة بالغة التأثير، هي ثقافة ” التسطيح “.
قد نفهم التسطيح بشكل مبسط على أنه ذاك الاهتمام بالقشور في الموضوعات والقضايا الكبيرة، أو النظر إلى الأمور بنظرة سطحية وترك اللب أو الغوص في الأعماق.. وهذه ثقافة يقوم عليها كثيرون ويؤكدون عليها ويحرصون أشد الحرص على تعزيـزها.. وهؤلاء الآخرون إما على شكل دول أو أحزاب أو مؤسسات أو شركات أو على شكل أفراد.
راجت هذه الثقافة قديماً وانتشرت في مجتمعات القمع والإرهاب أو التصفيق والتطبيل، قام على نشرها والتأكيد عليها زعماء وحكام وجبابرة البشر، وأرادوا من نشر ثقافة التسطيح تلك، تغييب الوعي العام عن عظائم الأمور والقضايا المهمة، فكانت جل معارف شعوب أولئك الجبابرة عبارة عن معلومات غاية في السطحية للكثير ولفترات طويلة من الزمن، حتى لم يعد لدى الكثيرين تلك القدرة على معرفة الحق أو تمييزه عن الباطل، أو إدراك الصواب من الخطأ، بسبب تلكم الثقافة.
اليوم، وبفعل وسائل الاتصال وتطورها المستمر، من فضائيات وإنترنت وغيرها، فقد تسارعت عجلات هذه الثقافة بين البشر، حيث تقوم وسائل إعلامية بدور رهيب وغاية في الخطورة في نشر وتعزيز ثقافة التسطيح حول الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. وعلى الرغم من القوة الهائلة لشبكة الإنترنت تحديداً، للقيام بدور الضد لهذه الثقافة وبيان الحقائق أولاً بأول، إلا أن الملاحظ هو تزايد أعداد من تتسطح ثقافتهم يوماً بعد يوم، لاسيما في القضايا المصيرية العظيمة، وشواهد ذلك كثيرة حولنا يمنة ويسرة..
إذن، والحال كذلك، لابد وكخطوات عملية لوقف تعمّق هذه الثقافة وانتشارها في المجتمعات، أن يتم نشر الوعي، لاسيما من قبل النخب المثقفة المطّلعة على بواطن الأمور وحقائق الأشياء، وإنّ ترك بعض وسائل الإعلام ومواقع في الإنترنت تسرح وتمـرح بين الشعوب لتزيد من تجهيل وتسطيح العقول، هو أمرٌ غير مقبول البتة، بل أظن أنه قد صار من الواجب العمل على تفعيل الضد وتوعية الشعوب وتعميق الفكر فيهم، واستثمار نفس الوسائل أو الأسلحة المستخدمة في نشر ثقافة التسطيح، لتعم بدلاً منها ثقافة التدبر والتفكر والتأمل، التي لا شك بأن نتاجاتها ستكون عظيمة الأثر، لاسيما في هذه الأمة التي تتعرض عشرات من قضاياها الاستراتيجية لقدر هائل من التسطيح والتجهيل ليلاً و نهارا، وقضية الأقصى أبرزها، وفقدان الهوية تاليها..
فهل النخب المفكرة على قدر المسؤولية وتقوم بدورها المطلوب في هذا الأمر ؟