في طريقنا إلى الحضارة، علينا أن نعيد النظر في مجالات وموضوعات كثيرة، على مستوى الفكر والعمل، أو التصور والممارسة. ومن ذلك ما يتعلق بالإنسان، وبالأسرة، وبالأخلاق.
فالإنسان هو عماد الحضارة، منه تنطلق وعليه تقوم.. والأسرة هي اللبنة القوية للمجتمع، الذي هو “أسرة كبيرة”.. والأخلاق هي الركيزة الأساسية التي تُميِّز الإنسان وتجعله متحققًا بالإنسانية، فعلاً لا اسمًا..
الإنسان.. من قبضة الطين إلى نفخة الروح
الإنسان مخلوق مكرَّم؛ خلقه الله تعالى من الطين ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأسبغ عليه نِعَمه ظاهرةً وباطنة؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: 70).
وهذا الإنسان لم يُخلق عبثًا، ولن يُترك سُدى؛ وإنما خُلق لمهمة محددة هي عبادة الله وعمارة الأرض، وسينتقل بعد هذه الحياة الدنيا إلى الدار الآخرة ليحاسَب عما قدّم، وليجازى عما فعل: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115).
فهو مستخلَف في الأرض، ومؤتَمن على نفسه وعلى ما حوله؛ وليس له أن يتصرف فيما أنعم الله عليه به وملَّكه إياه إلا بما أمر الله؛ وهو سبحانه لا يأمر الإنسان إلا بما فيه مصلحته في الدنيا والآخرة، وإلا بما يُيسر عليه حياته وينفعه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185)؛ {مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (النساء: 147).
ومن المهم أن نؤكد دورَ “الإنسان” في “معادلة الحضارة”، ونرسخ في ثقافتنا ووعينا أنه أهم عناصرها؛ وإذا نجحنا في بناء هذا الإنسان فإن ما بعد ذلك أيسر، وسيكون طريقنا إلى الحضارة والعمران مأمون العواقب.. فالإنسان هو بداية الطريق باتجاه التنمية، وهو الضامن لاستدامتها.
وفي سبيل الانتقال بالإنسان من “قبضة الطين” إلى “نفخة الروح”؛ علينا أن:
• نعمل على “بناء الإنسان” بناءً متكاملاً؛ بحيث لا نتوقف عند توفير حاجاته المادية فحسب، وإما نهتم بحاجاته الفكرية والوجدانية والمهارية، وبتنمية ملكاته وعواطفه.
• نهتم بالجانب الروحي والخُلقي لدى الإنسان، أي بتجليات “النفخة الإلهية”؛ لأن ذلك هو ما يكفل استقامة الإنسان وعدم انحصاره في “قبضة الطين”.
• نحترم الإنسان من حيث هو إنسان؛ لا نفرّق في حقوقه الأساسية بسبب الاختلاف في لون أو لغة أو لسان أو دين.. فالإنسان أيّا كان ينبغي أن يكون مصون الجانب، موفور الكرامة.
الأسرة.. من التساكن إلى السكن
الأسرة هي أصغر وحدة ينشأ منها المجتمع، وتتكون من رجل وامرأة؛ وهي اللبنة الأساسية في المجتمع، الذي يتكون من مجموعة من الأُسَر.
ولا شك أنه كلما كانت الأسرة قوية متماسكة فاعلة، كان المجتمع كذلك قويًا متماسًكا فاعلاً؛ فهو انعكاس للوحدات التي يتكون منها. وكما أن المجتمع “أسرة كبيرة”، فإن الأسرة “مجتمع صغير”؛ والعلاقة بينهما علاقة طردية على هذا النحو.
و”الأسرة” لها دور محوري في الطريق الذي علينا أن نسلكه إلى الحضارة والتنمية؛ لأن المجتمعات المفككة تعاني من أمراض كثيرة تمثل حجرة عثرة في هذا الطريق.
• وعلى هذا، فالمطلوب حضاريًا وتنمويًا، أن نعمل على تدعيم الأسرة؛ سواء فيما تواجهه من: تحديات مادية؛ وذلك بالمساعدة لغير القادرين.. أو: تحديات معنوية؛ وذلك بالتوعية قبل الزواج، وإصلاح ذات البين بعده.. حتى تنتقل العلاقة بين أفراد الأسرة من مجرد “التساكن” مع بعضهم البعض في مكان واحد، إلى “السكن” القائم على المودة والرحمة والتفاهم وتبادل الرعاية والاهتمام.
فهذا “السكن” هو من أهم مقاصد الزواج، كما عبر القرآن الكريم في قوله تعالى، وهو يمتن علينا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21).
الحياة مليئة بالتحديات والصعوبات، وينبغي أن يكون أطراف الأسرة- الزوجان والأولاد- عونًا لبعضهم البعض على مواجهة ذلك، وعبوره بأمان.. لا أن يكونوا عبئًا يضاف إلى التحديات والصعوبات!
• كذلك من المهم، التصدي لمحاولات زعزعة كيان الأسرة وقيمها؛ بإيجاد مفاهيم تخالف الفطرة (أسر تتكون من رجل ورجل، أو امرأة وامرأة)؛ أو مفاهيم تُضعف قيم الأسرة.. وأن نعمل على إيجاد “الأسرة المنتجة” المشارِكة في التنمية، والانتقال بها من حالة الأخذ إلى العطاء والإنتاج.
• وأخيرًا، أن نطلق ونساند “المبادرات المجتمعية” التي تهدف إلى تدعيم كيان الأسرة والتقليل من نسبة الطلاق.. وإلى زيادة الوعي بالمهارات الأسرية اللازمة.. حتى نحافظ على هذه الوحدات التي يتكون منها المجتمع المتماسك الفاعل..
الأخلاق.. من القيم إلى السلوك
الأخلاق جمع خُلق؛ والخُلق: “هيئة للنفس راسخة تَصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر، بدون حاجة إلى فكر وروية؛ فإن كان الصادر عنها أفعالاً حسنة كانت الهيئة: خُلقًا حسنًا؛ وإن كان الصادر منها أفعالاً قبيحة كانت الهيئة: خلقًا سيئًا” (الجرجاني في كتابه “التعريفات”).
و”الأخلاق” ضرورة للاجتماع الإنساني.. بدونها يتجرد الإنسان من إنسانيته! ولا يمكن ترك المجتمع بلا أخلاق، أو لمحددات القانون فقط؛ لأن هناك مساحة يصعب تنظيمها بالقانون، وهي مساحة المروءة والعطف والاحترام والتراحم.. هذه مساحة لا بد من مَلْئِها بالأخلاق وليس بالقانون.. القانون قد يمثل الحد الأدنى لضمان الحقوق؛ بينما الأخلاق توفر الوازع لدى كل شخص ليلتزم بالقانون وليسمو على ثغراته، وليرتقي بالحد الأدنى إلى المراتب العليا.
كما أن الأخلاق ركيزة إسلامية أساسية؛ بل عليها مدار الرسالات السماوية، وجاء الإسلام لِيتمِّمَها؛ فالتزام الأخلاق هو التزام بالدين نفسه الذي جاء برسالة أخلاقية راقية، وفي الحديث الشريف: “إنما بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ” (السلسلة الصحيحة). وأيضًا: “إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ، أحسنُكم أخلاقًا” (رواه البخاري).
و”الحضارة” لا تقاس بإنجازها الكمّي وعمرانها المادي، وإنما بتراكمها الخُلقي وعمرانها النفسي والأخلاقي، ومعرفة ما تسهم به لخدمة الإنسان من حيث هو إنسان؛ إسهامًا يعلو على النظرات العنصرية والتصنيفات الضيقة.
وعلينا أن ننتقل بخطابنا الأخلاقي من مرحلة القيم والحديث النظري عنها، والمباهاة بما لدينا عنها في تراثنا الحضاري.. إلى مرحلة السلوك وتفعيل هذه القيم في حياتنا وواقعنا. وقد عاب القرآن الكريم انفصال القول عن الفعل؛ وحذّر من ذلك؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف: 2، 3)
ولا شك أن هذا يتطلب منا الاهتمامَ بغرس الأخلاق عند الطفل منذ الصغر، وتكاتفَ برامج التربية والإعلام في ذلك، وأن تكون الأسرة قدوة حسنة للطفل؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وللأسف، فإن ضغوط الحياة المعاصرة تُلقي بظلال قاتمة على الجانب الأخلاقي، وتجعل التمسك به يحتاج إلى عزيمة قوية.. بالرغم من أن الأخلاق تكون أشد أهمية في المنعطفات والأزمات.. لكن علينا ألا نكفّ عن المحاولة..