قال تعالى : { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } (المؤمنون : 14)
نستكمل الحديث الذي كنا قد بدأناه عن الأطوار الجنينية كما ذكرها البيان القرآني والحقائق العلمية الثابتة في كل طور من الأطوار.. وكنا قد تناولنا في الموضوعين السابقين كلا من أطور النطفة، و العلقة، و المضغة، و العظام، والآن نتناول الأطوار التالية:
الطور الخامس: طور العضلات والكساء باللحم
الحقائق العلمية الثابتة: يتميّز هذا الطور بانتشار العضلات (Muscles) حول العظام وإحاطتها بها، وبتمام كساء العظم باللحم تبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال فترتبط أجزاء الجسم بعلاقات أكثر تناسقاً، وبعد تمام تكوين العضلات يمكن للجنين أن يتحرك. تبدأ مرحلة تكوين العضلات في نهاية الأسبوع السابع، وتستمر طوال الأسبوع الثامن، وتأتي عقب طور العظام مباشرةً وخلال فترة وجيزة.
تأملات قرآنية: تبدأ مرحلة كساء العظام باللحم في نهاية الأسبوع السابع وتستمر إلى نهاية الأسبوع الثامن، وتأتي عقب طور العظام كما بيّن ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى “فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثم أنشأناه خلقا آخر ” (المؤمنون: 14).
ويعتبر هذا الطور الذي ينتهي بنهاية الأسبوع الثامن نهاية مرحلة التخلق، كما اصطلح علماء الأجنة على اعتبار نهاية الأسبوع الثامن نهاية لمرحلة الجنين الحُمَيل Embryo ، ثم تأتي بعدها مرحلة الجنين بالخاصة Foetus التي توافق مرحلة النشأة، كما جاء في قوله تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثم أنشأناه خلقا آخر فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) صدق الخالق العظيم سبحانه وتعالى.
الطور السادس: طور النشأة والقابلية للحياة
الحقائق العلمية الثابتة: بنهاية الأسبوع الثامن تبدأ مرحلة جديدة تحدث فيها عمليات هامة، حيث يتسرّع معدل النمو مقارنة بالسابق وكذلك يتحوّل الجنين لخلق آخر، حيث تبدأ أحجام الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال ما بين الأسبوع التاسع والثاني عشر.
في الأسبوع العاشر يبدأ ظهور الأعضاء التناسلية الخارجية ويتطور بناء الهيكل العظمي من عظام غضروفية لينة إلى عظام كلسية صلبة في الأسبوع الثاني عشر، وتتمايز الأطراف والأصابع بنفس الأسبوع، وكذلك يظهر جنس الجنين بظهور الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل أوضح.
ويزداد وزن الجنين بصورة ملحوظة، وتتطور العضلات الإرادية وغير الإرادية كما تبدأ الحركات الإرادية في هذه المرحلة.
وفي هذا الطور أيضاً تصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها، وتتم تهيئة الجنين للحياة خارج الرحم في الأسبوع 22 وتنتهي في الأسبوع 26 (أي بعد تمام الشهر السادس للحمل) عندما يصبح الجهاز التنفسي مؤهلاً للقيام بوظائفه، ويصبح الجهاز العصبي مؤهلاً لضبط حرارة جسم الجنين. وهنا لا تنشأ أجهزة أو أعضاء جديدة بعد أن أصبحت كلها مؤهلة للعمل ويقوم الرحم بتوفير الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين حتى طور المخاض.
تأملات من البيان القرآني: يبدأ هذا الطور بعد مرحلة الكساء باللحم، أي من بداية الأسبوع التاسع، ويستغرق فترة زمنية (حوالي 3 أسابيع) يدل عليها استعمال حرف العطف (ثم) الذي يدل على فاصل زمني بين الكساء باللحم والنشأة خلقاً آخر، قال تعالى: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثم أنشأناه خلقا آخر } .
بعد تطور الهيكل العظْمي الغضروفي وكسوته بالعضلات وتمايز الرأس والأطراف يتحول الجنين للخلق الإنساني الواضح المتميز عن غيره من المخلوقات { ثم أنشأناه خلقا آخر فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } .
في خلال هذه المرحلة تتم عدة عمليات هامة في نمو الجنين تندرج بجلاء تحت الوصفين اللذين جاءا في القرآن الكريم، ويمكن بيانهما فيما يلي:
1- النشأة: ويتضح بجلاء في سرعة معدل النمو من الأسبوع التاسع مقارنة بما قبله من المراحل.
2- خلقاً آخر: هذا الوصف يتزامن مع الأول، ويدل على أن الجنين الحُمَيل Embryo قد تحول في مرحلة النشأة إلى خلْق آخر هو الجنين (بالخاصة) Foetus فتظهر الأطراف والأعضاء الخارجية، وتتضح الأصابع والأعضاء التناسلية. يقول تعالى {هوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (آل عمران: 6).
وثمة لفتة أخرى هنا حيث يقول سبحانه في سورة الزمر “يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ” (الزمر: 6) مبيناً استمرار التطور الجنيني والتحول من مرحلة إلى أخرى وهذا كما بيناه سابقاً، وكذلك أثبت علماء الأجنة أن الجنين يكون محاطاً أثناء مراحل تخلّقه في الرحم بثلاثة أغشية هي:
1- الغشاء الأمنيوسي (Amnion) الذي يحتوي على سائل يحيط بالجنين فيجعله في حالة سباحة؛ مما يقيه من الرضوض التي يتلقاها الرحم، وكذلك يسهل حركته لتسهيل وضعيته أثناء الولادة.
2- غشاء الكوريون (Chorion).
3- غشاء (Decidua).
مع أن بعض العلماء الآخرين فسّروا الظلمات الثلاث بالغشاء الأمنيوسي المحيط بالجنين، وجدار الرحم وجدار البطن، والله أعلم.
وكما مر معنا أن الجنين يصبح مهيأً للحياة خارج الرحم بعد تمام الشهر السادس، ومن الطريف أن نلاحظ البيان القرآني قد ذكر في سورة الأحقاف أن مرحلة الحمل والحضانة تستغرق 30 شهراً {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا } (الأحقاف: 15)، وفي سورة لقمان يذكر أن فترة الحضانة هي 24 شهراً { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } (لقمان: 14) وبحساب بسيط نستنتج أن البيان القرآني يقرر أن أقل فترة للحمل هي أيضاً 6 أشهر كما أوضحنا سابقاً، وقبل الأسبوع الثاني والعشرين الذي يبدأ فيه هذا الطور يخرج الجنين سقطاً في معظم الأجنة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
الطور السابع: طور المخاض
بعد مرور تسعة أشهر قمرية (38 أسبوعا) يكون الجنين قد أتم نموه في الرحم وحان موعد خروجه منه بعد انقضاء هذه الفترة المحددة، يقول تعالى: { وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } (الحج: 5) فالأجل مسمى ومحدد، والفترة مقدرة معلومة { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ . إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ . فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } (المرسلات :21-23).
وقبل التحدث عن أطوار المخاض يجدر بالذكر هنا التنويه إلى إشارات البيان القرآني حول فوائد التمر للمرأة الماخض حينما يذكر السيدة مريم واصفاً حالها: { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا منسيّا . فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا . وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا . فَكُلِي وَاشْرَبِـي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم 23-26)، فقد ثبت علميًّا وجود فوائد عديدة للتمر، من أهمها على سبيل المثال بالنسبة للمرأة الماخض: غنى التمر بالألياف مما يساعد على تجنب الإمساك فهو ملين طبيعي يساعد على إتمام الولادة، واحتواء التمر على السكريات البسيطة (الجلوكوز) بنسبة تزيد على 70% وهو سهل الامتصاص والتمثيل، يضمن توفير الطاقة اللازمة أثناء المخاض، وهو غني بالأملاح وخاصة المجنيزيوم اللازم لفسيولوجيا الخلايا والبوتاسيوم اللازم للعضلات وتقلصاتها، وكذلك الحديد اللازم لإصلاح فقر الدم لدى الماخض، وأخيراً يعتبر احتواء التمر على مادة تساعد على تنبيه تقلصات عضلة الرحم وزيادة انقباضاتها أثناء الولادة (وهذه المادة تشبه هرمون Oxytocin الذي تفرزه الغدة النخامية)، هذا بالإضافة إلى فوائد أخرى كثيرة للتمر لا مجال لذكرها هنا، فسبحان الله العليّ القدير.
يتضمن طور المخاض الذي ينتهي بالولادة 4 مراحل:
1- مرحلة توسع عنق الرحم وانقباض عضلة الرحم: ويحدث ذلك نتيجة عوامل عديدة منها الميكانيكية ومنها الهرمونية، حيث يتم إفراز مجموعة من الهرمونات تساعد على بدء المخاض، ومن هذه الهرمونات:
(Prostaglandin, Corticotropin Releasing Hormon, Adreno Cortico Tropin, Corticol, Oxytocin, Estrogin)
تستغرق هذه المرحلة حوالي (7-12 ساعة) حيث يتهيأ عنق الرحم بتوسعه وتمدده لمرور الجنين.
2- مرحلة خروج الجنين: تستغرق مرحلة خروج الجنين هذه حوالي (30-50 دقيقة)، وتبدأ بعد توسع عنق الرحم بشكل كافٍ ونتيجة انقباضات الرحم وتقلصاته المتتابعة يبدأ رأس الجنين بالخروج أولاً، ومن اللافت للنظر أن قطر رأس الجنين قد يتجاوز 12 سم وهذا يتجاوز ثلاثة أضعاف قطر القناة المهبلية في الحالة الطبيعية!.
حين نرى هذا ونرى دور العديد من العوامل الهرمونية الذاتية المساعدة في خروج الجنين بالإضافة إلى تمدد أربطة الحوض وعضلاته لتيسير وتسهيل هذا الخروج نعلم حكمة قوله عز وجلّ : { ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ } (عبس: 20) فتبارك الله أحكم الحاكمين.
3- مرحلة خروج المشيمة: وتشكّل العلقة الدموية خلفها كما يتبين، وهذه المرحلة تستمر حوالي 15 دقيقة.
4- مرحلة انقباض الرحم: لتخفيف النزف الدموي بعد انتهاء عملية الولادة، قد تستمر هذه المرحلة حوالي ساعتين.
وبعد الولادة وقطع الحبل السُّري الذي كان يعتمد عليه الجنين لتحصيل الغذاء من أمه طوال فترة الحمل يبدأ المولود مرحلة أخرى في محطة جديدة من حياته! فسبحان القائل: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا } (النمل: 93)، وقوله: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فصلت 53) صدق الخالق العظيم سبحانه وتعالى.