لنرجع أربعة قرون إلى الوراء، إلى الربع الأخير من القرن السادس عشر الميلادي، هناك في الشمال البعيد، في هولندا، حيث أسست جامعة ليدن عام ١٥٧١، وكأنما كانت مولوداً جاء إلى الدنيا كبيراً، ففي وقت وجيز تعددت الاختصاصات التي كان بوسع الطلبة أن يدرسوها في هذه الجانعة الجديدة التي كانت صرحاً ضخماً تخرج منه الكثير من المستشرقين: العلماء الكبار، والجواسيس الخطرين، والذين كانوا عين أوروبا المتفتحة على الشرق، للاستكشاف النزيه أحياناً، والخبيث أحياناً.
وبعد خمسة وعشرين عاماً من تأسيس الجامعة، ولد صاحبنا جوكولوس جوليوس، وفي جامعة ليدن درس، كان تلميذاً نبيهاً متعدد الاهتمامات، مجداً في التحصيل، ولم يشأ أن يحصر نفسه في فن بعينه ابتداءً، فدرس علوماً عدةً: اللاهوت، والفلسفة، والرياضيات، والطب، قبل أن يقرر الاتجاه إلى الدراسات العربية.
مرت الأيام، ونما جوليوس، وتخرج في الجامعة، فقرر أن ينطلق ليرى بعينيه ذلك العالم العربي الذي طالما سمع به، وطالما أمضى الليالي والأيام يدرس لغته ويبحث في شؤونه.
كان العالم العربي شيئاً غامضاً، ساحراً، جذاباً ومثيراً للاهتمام، وكان أن اتجه جوليوس إلى مدينة “آسفي” المغربية، الميناء المهم، والمدينة المشهورة بصناعة الخزف وصيد السمك وتجفيفه، كانت الجيوش البرتغالية قد غادرت آسفي بعد أن احتلتها طويلاً، فعمرت، ثم دمرت بعضها حين انسحابها، ووصلها جوليوس، فطاب له المقام بها، وأخذ يتعرف إلى العرب عن كثب، يتناول طعامهم، ويتمرن على لهجتهم، وويدرس تاريخهم، ويزور مكتباتهم، ويقتني مخطوطاتهم، ليعود إلى هولندا بعد عامين حافلين بجديد المشاهدات وطريف المعلومات ونفيس المخطوطات.
ها هو جوليوس، شاب لم يبلغ الثلاثين بعد، متزود بمعرفة عميقة، وتجربة عملية، ولغة عربية ممتازة، وكنوز من المخطوطات، كل ذلك يؤهله ليشغل منصب أستاذ اللغة العربية بجامعة ليدن، وبعد عام واحد فقط، تكلفه الجامعة برحلة إلى المشرق العربي، وتزوده بمال كثير كي يشتري به ما يتيسر من المخطوطات العربية، فينطلق شرقاً في رحلة طالت أربعة أعوام، تجول فيها ببلاد الشام متخذاً من حلب في شمال سوريا مركزاً له، وهناك -كما هي العادة- أخذ جوليوس يتعلم، ويقيد، ويقرأ، ويشتري المخطوطات، ويستكشف البلدان في المشرق العربي. ويرافق الجيش العثماني في إحدى الحملات العسكرية ضد الفرس.
ثم اتخذ جوليوس طريق العودة إلى هولندا على مهلٍ، فقطع الأناضول من الشرق إلى الغرب، يقف في كل مدينة يراها تستحق الوقوف، ويزور معالمها، ويذوق أطايبها، ثم يمضي إلى ما يليها، حتى بلغ إسطنبول، التي كانت حاضرة الخلافة العثمانية، ولم يكن من السهل أن يقاوم جوليوس إغراء إسطنبول، ولا أن يمر مرور الكرام بمآذنها الشاهقة ومعالمها الكثيرة وإطلالتها من قارتين مختلفتين على مضيق البوسفور.
ولا ندري، هل خطر ببال جوليوس وهو يقطع المسافة القصيرة بين القارتين، أن جهوده ستكون بالغة الأثر في تاريخ هاتين القارتين المتعاديتين؟!
بلغ جوليوس ليدن، وفي حوزته المئات من الكتب العربية النادرة، التي لم تدخل من قبل إلى المكتبات الأوروبية، كان جوليوس يفكر على نحو إستراتيجي، وينقل تفكيره هذا إلى تلامذته النجباء في الجامعة، فلكي تتفوق جامعة ليدن على نظيراتها من الجامعات في مخرجاتها، ينبغي أن تتفوق عليها في مواردها المعرفية، وهل ثمة في الموارد المعرفية ما هو أنفس من الكتب التي لم يجتمع مثلها في جامعةٍ أخرى بالقارة العجوز؟
عُيّن جوليوس أستاذاً للرياضيات، إضافة إلى مهمته الأولى أستاذاً للغة العربية، وأقبل جوليوس على التعليم والتأليف وتكوين الورثة العلميين في دأب عجاب، وتنوع نتاجه: بين كتب تعليمية ألفها، وأخرى قديمةٍ نشرها، ومخطوطات عربية حققها، ونصوص أدبية وعلمية ترجمها إلى اللاتينية وأصدرها.
وأعظم ما قدمه جوليوس من الآثار العلمية: المعجم العربي اللاتيني، الذي بذل فيه جهداً صخماً جداً، حيث بناه على مطالعاته الواسعة في الكثير من المعاجم الصادرة بلغات عدة، والكثير من كتب التراث الإسلامي التي جمعها في رحلتيه المثريتين في شرق العالم العربي وغربه، وظل ذلك المعجم مرجعاً لا يستغني عنه الباحثون الأوربيون مدة مديدة من الزمن بعدما غادر جوليوس هذا العالم.
ذلك الثراء الفكري الذي نالته مكتبة جامعة ليدن من جراء المخطوطات العربية التي جلبها جوليوس، كان حافزاً لواحد من تلامذته إلى أن يستنّ بسنّته ويعمل عمله، وكان ذلك التلميذ لفينوس فارنر، الذي رحل من هولندا إلى إسطنبول، وأقام بها مدة طويلة، يجمع من المخطوطات ما لم يجمعه أستاذه، حتى بلغت مخطوطاته حوالي الألف، أوصى بها لذات المكتبة التي أضاف إليها جوليوس، مكتبة جامعة ليدن، وبذا صارت ليدن مرجعاً لا يمكن لجامعة في أوروبا منافسته في حقل الدراسات العربية بشكل خاص، والاستشراق بشكل عام.
هكذا كان جوليوس، أستاذاً لا يُشق له غبار، وباحثاً جاداً جيداً، أخذت السنوات تتراكم عليه، فغادر الشباب إلى الكهولة ثم الشيخوخة، وهو لا يزال على جادة البحث والتدريس، حتى اخترمته المنون في عام ١٦٦٧، وهو في العام الواحد والسبعين من عمرٍ مديد مثمر.