ثمة آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تؤكد انتصار الإسلام، وتبشر بهيمنته وعلوه في أرجاء الأرض، وتوضح أن له الكلمة العليا، وأن الله تعالى متم نوره وناصر جنده ولو كره الكافرون، وكاد الكائدون..
من هذه الآيات الكريمات قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور: 55). وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا} (الفتح: 28). وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة: 21).
ومن الأحاديث ما رواه أحمد في مسنده عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الدِّينُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلا يَتْرُكُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْتَ مَدَرٍ وَلا وَبَرٍ إِلا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ؛ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزٌّ يُعِزُّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الإِسْلامَ، أَوْ ذُلٌّ يُذِلُّ بِهِ الْكُفْرَ”.
وما رواه مسلم في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “إِنَّ اَللهَ زَوَى لِي اَلأَرْضَ, فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا, وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا؛ وَأُعْطِيتُ اَلْكَنْزَيْنِ اَلأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ.
ولا شك أن هذه الآيات والأحاديث تملأ المسلم ثقة في وعد الله تعالى، الذي لا يخلف وعده؛ وتجعله في يقين نفسي وطمأنينة لا زعزعة فيهما بأن الإسلام ظاهر على الدين كله، وغالب ما سواه من مذاهب وفلسفات.
هذا حق لا ريب فيه..
وهذه الثقة والطمأنينة واليقين- في الفهم الصحيح- يجب أن تدفع المسلم إلى العمل الحثيث لتحقيق انتصار الإسلام، ولجعل هذه المبشرات حقيقةً في أرض الواقع؛ يحياها الناس ويحيون بها، ويستظلون بظلالها.
إن هذه النصوص- وغيرها كثيرة- لم تَرِدْ دون حكمة، وليست العبرة منها المعرفة المجردة التي لا ينبني عليها عمل.. بل جاءت لتشحذ الهمم، ولثبِّت الإيمان واليقين في النفوس، ولتجعل أمام المسلمين أملاً لا ينقطع بقدرتهم على تجاوز الصعاب، وتخطي الأزمات، والانتصار على ما يتوالى عليهم من محن.
لكن الواقع يشهد- للأسف- أن البعض يتخذ من هذه الآيات وتلك الأحاديث تُكأَةً لتكاسله عن القيام بما يجب عليه، ومبرِّرًا لقعوده عما ينبغي عليه فعله.
فإذا حدثتَ أحدهم عما يحيط بعالَم الإسلام من مكائد ومصائب، وعما يحيكه الأعداء من خطط وما يرتكبونه من جرائم، وعما ينزل بمجتمعاتنا من تغريب وتغييب وتشتيت.. انفرجت أساريره عن ابتسامة باهتة، وكأنه يطلب منك عدم الاكتراث بذلك، لأن الإسلام- حسب مقولة هذا البعض، التبسيطية المخلة- غالب زاحف، وأن الله تعالى لن يترك دينه!
إن هذا الفهم العليل لم يدرك حقًّا سنة الله تعالى في خلقه؛ هذه السنة التي أراد بها سبحانه أن يتدافع أهل الحق وأهل الباطل؛ ليتمايز كلا الفريقين، وليبذل كل منهما ما يسعه من بَذْل، وليتبين الصادق في دعواه من الكاذب، والثابت من المهتز..
هذه السنة الإلهية قررتها آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد: 4). وقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140).
فقد حدث خلط عند البعض بين ضرورة اليقين بموعود الله، وبصدق إخباره وإنبائه، وبين ضرورة استعدادنا وقيامنا بتحقيق هذا الموعود؛ الذي هو بطبيعته لن يتحقق وحده من تلقاء نفسه؛ وإلا لانتفت الحاجة إلى وجود مؤمنين ينصرون الإسلام وينافحون عنه!
إن وعد الله صادقٌ لا ريب، وآتٍ بلا شك.. لكنه يحتاج إلى رجال يحملونه، ويحققونه، ويسعون إلى إيجاده وتنفيذه..
ولنسأل أنفسنا: هل يقين النبي ﷺ في نصر الله إياه، وفي حفظه ومنعه من المشركين؛ دَفَعَه للقعود عن الأخذ بالأسباب، وعن بذل الجهد وتحمُّلِ المشاق؛ أم دفعه للعمل والمجاهدة وهو ممتلئ ثقة وأملاً في وعد الله؟!
وهل أمر النبي ﷺ أصحابه الكرام بالاستسلام لما وقع عليهم من ضغوطات وأذى وحصار معنوي ومادي، من قبل كفار قريش؛ بحجة أنهم منصورون ومؤيَّدون من الله تعالى؛ أم أمرهم بمغالبة الواقع الضاغط، ومقاومة التحديات؟!
وهل قعد الصحابة في المدينة ينتظرون انتشار الإسلام بذاته، في أرجاء الأرض؛ لأنه الدين الحق ويحمل مقومات الانتشار في نفسه، من حيث صدق مبادئه واتساقه مع منطق الفطرة وسبيل العقل.. أم إنهم- رغم إيمانهم بهذا كله- انساحوا في الأرض، ينشرون الحق والعدل، ويجاهدون الكفر والظلم، ويبذلون النفس رخيصةً في سبيل نشر دعوة الله وإعلاء كلمته؟!
وهل اكتفى الصالحون من بعدهم- مثل سعيد بن جبير، وأحمد بن حنبل، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية- بالعيش الهنيء، والظلال الوارفة، والطعام الشهي؛ وتوقفوا عن الصدع بكلمة الحق، وعن النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.. أم قاموا بواجب الحق عليهم، وبأمانة العلم لديهم، وتحملوا في سبيل ذلك العنت والمشقة؛ رغبةً في مثوبة الله، ونصحًا للأمة، وذودًا عن حِياض الإسلام؟!
إن الفهم الصحيح لتلك الآيات وللأحاديث المبشرات بانتصار الإسلام، يجعلها وقودًا للعمل، ودافعًا للحركة، ونبراسًا على الطريق.. بينما الفهم الخاطئ يجعلها مثبِّطات وتكأة للقعود، ومبررًا للتكاسل، وذريعةً لغض الطرف عما يجب القيام به تجاه العوائق والتحديات؛ التي تواجه الإسلام، وتكبِّل واقع المسلمين.
ولا شك أن هذا الموقف الثاني يسيء لهذه الآيات والأحاديث؛ حيث يجعلها “شماعة” لعدم الاستجابة للتحديات ومقاومتها.. فهو موقف يصدِّق- وربما من حيث لا يدري أصحابه!- مقولة من يزعمون كذبًا أن الدين أفيون الشعوب؛ وليس دافعًا للحركة، ووقودًا للتغير نحو الأفضل والأمثل والأقوم..!
لكننا مطالبون ببذل ما نملك ولو كان شِقَّ تمرة أو كلمةً طيبة، وبأن نصلح أنفسنا ومَنْ حولنا ولو في دائرة ضيقة جدًّا، وبأن نتحلى بالأمل مهما بدا ضئيلاً، وبألا نفقد الثقة واليقين في الله تعالى..
فلنا يقين في الله لا يُقعدنا عن العمل، ولنا عمل لا يَنفي اليقين..