في ظل ما يعيشه المنكوبون جراء زلزال تركيا وسوريا، ومع تضرر آلاف الأشخاص والأسر، وكثرة الخسائر من الموتى التي وصلت أكثر من عشرين ألف قتيل، وعشرات الآلاف من الجرحى، بالإضافة إلى الخسائر المادية، التي قدرت – حسب اتحاد الشركات والأعمال في تركيا- بنحو 84 مليار دولار، مع توقع ارتفاع عجز الموازنة من 3.5% إلى 5.4% على الأقل.
وفي سوريا تشير التقديرات إلى عشرات المليارات، وقد دمرت 418 مبنى بشكل كامل، ونحو 1400 مبنى بشكل جزئي، كما بلغ عدد المتضررين نحو 11 مليون شخص، وقد طالب برنامج الأغذية العالمي بمساعدة على شكل حصص غذائية لما يقدر بمائتين وأربعة وثمانين 284 ألف شخص شُردوا مؤخرا في سوريا.
في ظل هذه الكارثة الكبرى التي حلت ببعض بلاد المسلمين، وجب على المسلمين القيام بواجبهم الشرعي تجاه إخوانهم، ومن المسائل التي تعرض في هذا: أيهما أولى: حج النافلة أم إغاثة المنكوبين.
وبيان ذلك:
أنه تقرر شرعا أن حج الفريضة للقادر عليه من فروض الأعيان، فمن لم يحج بيت الله الحرام، وكان قادرا عليه؛ وجب عليه الحج؛ لقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97]، كما أنه لا يجوز تعطيل فريضة الحج لأنها من شعائر الإسلام، وأركانه الرئيسة الخمسة، كما في الحديث الصحيح:” بني الإسلام على خمس… وحج البيت من استطاع إليه سبيلا”، فلا يترك الحج الواجب على الأعيان.
أما إن كان حج نافلة؛ فإن إغاثة الملهوفين والصدقة على المنكوبين أوجب وأولى وأحب عند الله تعالى، وذلك لما يلي:
أولا- أن الحج من العبادات قاصرة الثواب على صاحبها، أما إغاثة الملهوفين والصدقة على المنكوبين الذين فقدوا بيوتهم وأعمالهم؛ فهو عمل متعدي النفع والثواب، وما كان متعديا في النفع؛ كان أولى وأكثر ثوابا عند الله تعالى.
وقد صاغ الفقهاء هذا المعنى في قاعدة بألفاظ متعددة، من ذلك: ” العمل المتعدي أفضل من القاصر”، و” المتعدي أفضل من القاصر”، و” الأجر على العمل المتعدي إلى الغير أجران”، و” القربة المتعدية أفضل من القاصرة”، و” الحسنة المتعدية إلى الغير أفضل من القاصرة على الفاعل”، ويستثنى من ذلك فرائض الأعيان.
وإذا كان قصد الذاهب إلى حج النافلة الثواب، فإن في الإنفاق على المنكوبين والجرحى والفقراء ثواب أعظم؛ إذ في نفقته منافع متعددة؛ من إنقاذ المتعرضين للموت، ومداواة الجرحى، وإطعام الفقراء، وكسوتهم، وإيجاد مساكن لهم، وغيرها من الأعمال الصالحة الكثيرة التي يتعدد نفعها ويعظم ثوابها.
ثانيا- أنه قد تقرر في قواعد الفقهاء: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وفي النفقة على المنكوبين درء لما وقع لهم من مفاسد عظيمة.
ثالثا- أن حماية النفس البشرية من الهلاك أو مداواتها من المرض مقدم على حج النافلة؛ فمقصد حفظ النفس من الهلاك يقع في رتبة الضرورات، وحج النافلة يقع في رتبة التحسينات، أو المكملات، ولا شك أن ما كان في رتبة الضرورة مقدم على رتبة ما سواها.
رابعا- أنه يجب شرعا على المسلمين عون إخوانهم في الحفاظ على حياتهم، وهناك عشرات الآلاف مازالوا تحت الأنقاض، وقد قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32].
خامسا- أن تقديم مساعدة الآخرين المحتاجين على حج النافلة هو قول الفقهاء المجتهدين والعلماء الراسخين، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تفضيل الصدقة على الحج مطلقا، من ذلك:
قال محمد بن الحسن الشيباني:” فالصدقة أفضل؛ لأنها أثقل”، مخالفا بذلك رأي شيخه أبي حنيفة. ( راجع: «عيون المسائل للسمرقندي الحنفي» (ص332).
وقيد بعض الفقهاء تفضيل حج النافلة عن الصدقة حدوث امر جلل يقدم الصدقة على حج النافلة، كوقوع المجاعة، أو يكون هناك من الأقارب من هو في حاجة ماسة للمال ونحو ذلك.
ومن تلك الآثار:
«سئل مالك عن الغزو والحج أيهما أحب إليك قال الحج إلا أن يكون سنة خوف قيل: فالحج والصدقة قال الحج إلا أن تكون سنة مجاعة» «مواهب الجليل في شرح مختصر خليل» (2/ 534).
وقال ابن تيمية – رحمه الله- :«والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة. «الفتاوى الكبرى لابن تيمية» (5/ 382)
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «على كلّ مسلم صدقة» ، وفيه: «يعين ذا الحاجة الملهوف»
وقد ورد في الأثر عن أبي هريرة – رضي الله عنه- «إن الله يحب إغاثة اللهفان»«تذكرة الحفاظ لابن القيسراني » (ص80).
سادسا- كما أن عون المحتاجين في هذه الكارثة قياما بواجب الأخوة في الإسلام التي حث عليها الشرع الحنيف، فعن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما -: أن رسول الله – ﷺ- قال: «المسلم أخو المسلم،لا يظلمه، ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة» . أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، و عن الحسن قال: «لأن أقضي لمسلم حاجة أحب إلي من أن أصلي ألف ركعة»، وعنه قال: «لأن أقضي لأخ لي حاجة أحب إلي من أن أعتكف شهرين» «قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا» (ص48).
وليعلم المسلم أن الأمر لا يتعلق هنا بالعواطف والمشاعر، وإنما يتعلق بالموازنات بين الأعمال بما فيه النفع لأمة الإسلام، والقيام بالواجبات التي تفرضها الشريعة عليه، وإن كان فاته الوقوف في المقام، فإن مقامه عند الله أعلى، وثوابه أعظم، وعمله أنفع، فلا ينجر بسوق عاطفته دون الالتزام بميزان الشرع، فهو أولى بالاتباع، وأعظم بالانتفاع.