إن ما يميز القيم الإسلامية أنها إلى جانب كونها أوامر إلهية يمتثل لها المسلم، فهي أيضا جهاز مناعة يتصدى لمظاهر الانحلال، ويربي في الإنسان ما يمكن تسميته بالضبط الإرادي الذي يستشعر الرقابة الإلهية، فيحقق صلاح المظهر والوجدان؛ عكس القوانين البشرية التي لا تمس من الحياة إلا قشرتها!
غير إن تلك الميزة تتطلب غرسا في الوجدان، وتهذيبا مستمرا يبدأ منذ تشكل إدراك الطفل، ووعيه بكينونته داخل الأسرة. ومدار الاهتمام هنا من قبل الوالدين يتعدى إصلاح السلوك الظاهر إلى تهذيب الباطن، وتعويد الطفل منذ نعومة أظافره على العيش في جو من مراقبة الله تعالى التي تحميه من ضعف نفسه وإغراءات الخارج.
وتشكل “معالي الأمور” أحد المداخل التربوية التي تسهم في تمتين البناء القيمي، وضبط مؤشر السلوك والموقف والتصرف، رغم انكماش حضورها في واقعنا الأسري. يقول النبي ﷺ، في الحديث الذي رواه سهل بن سعد رضي الله عنه: “إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها“. ومعالي الأمور يُقصد بها كل أمر رفيع القدر وعالي الشأن، وهي جمع لكلمة المعلاة التي يراد بها الرفعة والشرف. أما السفساف فهو غبار الدقيق الذي يرتفع عند نخله. تقول: سفسفت الريح الغبار أي طيّرته. ويراد بالكلمة كل أمر خسيس ودنيء.
هاهنا إذن صورة من صور التربية النبوية التي تربي المسلم على العزة والقوة، وتأنف من الأتباع الكسالى وذوي الهمم الفاترة. وباستقراء الكتابات التي حفلت بها المصادر الإسلامية منذ القرن الأول الهجري، نقف على مئات، وربما آلاف الحكايات التي تندرج تحت بند “المعالي” في طلب علم، أو تقديم خدمة مجتمعية، أو الدفاع عن العقيدة والمبدأ، أو إغاثة ملهوف. وتكشف عن عدم رضا بالحياة السهلة، وبالمجتمع الرخو الذي يستهلك وجوده في السفاسف، دون منجز أو عطاء يذكر.
كان النبي ﷺ في تربيته للجماعة الأولى يستهدف الجذور لتركيز الإيمان في قلوبهم. فكان من جملة المعالي التي رباهم عليها أن يحبوا الله ورسوله أكثر مما يحبون آباءهم وأبناءهم، بل وأنفسهم كذلك. وأن يصبروا على التعذيب الجسدي مادامت أرواحهم مفعمة بالأمن والرضا والثقة بوعد الله.
ومن المعالي التي حملهم عليها أن يتلمسوا القرب من خالقهم بالتقوى والعمل الصالح، فلم يعد للأصنام جدوى ولا للكهنة والعرافين. ولم يبق شيء يعوق سمو الروح، لتتصل بالله صلة عبودية ومحبة.
ومنها توجيههم بضرورة العمل والكسب من عرق الجبين، في مجتمع ارتبط فيه المال إما بالمسألة، أو بالنهب والاستغلال والاحتيال. نُقل عن حكيم بن حزام أنه قال: ” سألت رسول الله ﷺ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالذي يأكل ولا يشبع. اليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا – أي لا أنقص ماله بالطلب منه- حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر رضي الله عنه في زمن خلافته، يدعوه ليعطيه فيأبى أن يأخذ.
قدمت الحياة المحمدية، ومن بعدها مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم، نماذج عديدة لطلب المعالي في الأخلاق والأهداف والطموحات، وفي المواقف وإدراك غايات الوجود؛ بل كانت المعالي عنوان السلوك الاجتماعي، قبل أن تلوح بوادر الترف وجريان المال في زمن الفتوحات. ومن يتتبع مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتصرفاته في إدارة شؤون الأمة، يدرك حرصه الشديد على هذا النهج، وتخوفه من تبعات الانقلاب الهائل في المستوى المعيشي، وما يجره على الناس من تنعم على حساب الدين والأخلاق. لذا حين علم أن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يريد شراء لحم لأهله لأنهم اشتهوه، جدد حديث المعالي بعبارته الشهيرة: “أكلما اشتهيتم اشتريتم؟ ما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لابن عمه وجاره؟”.
كي تستأنف الأسرة اليوم ما بدأته مدرسة النبوة، فهي بحاجة إلى إعادة النظر في أسلوب تنشئة صغارها، وشكل العلاقات التي تحكم الحياة الأسرية. فالطفل الذي نريده حريصا على اكتساب المعالي، لابد أن يستوفي حاجاته الأساسية من التنشئة؛ أعني حاجته إلى الدفء العاطفي، وحاجته إلى الاحترام والتقدير والانتماء، ثم حاجته إلى قدر من الحرية والاستقلال في تصرفاته. وهي مطلوبات لا تقل أهمية عن حاجياته المادية، لكونها لبنات أساسية في بناء شخصيته، واعتزازه بذاته وبأدواره الاجتماعية.
ولأن القصص تنهض بوظائف تربوية بالغة الأهمية، فهي تمثل بدون شك مدخلا حيويا لبث المعالي في نفوس الناشئة، حين تحفزهم على المشاركة الوجدانية لأبطال القصص، وتتيح لهم الانفعال بالمواقف والأفعال الإنسانية المنحازة للخير والحق.
لكن أي نوع من القصص يحقق لصغارنا السير في درب المعالي؟ هل يمكن أن نعوّل على الشخصيات الكرتونية التي تنقل موروثا عقديا وقيميا منحرفا، أم على أبطال الخرافات من أميرات وسحرة ومشعوذين، ومخلوقات غريبة تشحذ خياله بالوهم والعجز؟ إن من واجب الأسرة أن تسهر على هذا الجانب باختيار قصص “نظيفة”، أي التي تجعل العلو والبطولة رهينين بالتغلب على الضعف البشري لا بالانسياق خلفه. وهي إحدى مميزات القصص القرآني.
يقول الأستاذ محمد قطب: ” إن القرآن يختار من “نفس” بطل القصة اللقطة المترفعة المستعلية، النظيفة الرائقة الشفيفة، التي تصلح للقدوة، وتغري بالارتفاع. ويختار من نفوس المنحرفين اللقطة التي تصور سواد قلوبهم وسوء انحرافهم، لتصلح للتنفير من أفعالهم، والاعتبار بمصائرهم.. إلا أنه في لقطات أخرى، وخاصة في القصص الطويلة التي تتسع للعرض والتحليل، يعرض النفس البشرية كاملة، بكل ما فيها من لحظات الضعف البشري. كل ما هنالك أنه لا يصنع كما تصنع الفنون “الواقعية” الحديثة، المتأثرة بالتفسير الحيواني للإنسان، ولا يجعل من لحظة الضعف بطولة تستحق الإعجاب والتصفيق والتهليل.”(1)
لا يخفى الإيحاء الخبيث في جل الأعمال الموجهة للطفل، عبر الشاشات أو من خلال الأجهزة الرقمية الحديثة، سواء كان هذا الإيحاء من رواسب الأساطير اليونانية التي تضج بصراع البشر ضد الآلهة، أو من بقايا وثنية تناقلتها آداب الأمم المختلفة. لذا فكل أسرة مسلمة مدعوة لإعادة ربط صغارها بقصص تفسح المجال للتصور الإيماني للحياة والكون والإنسان، وتشغل همّ الإنسان الرفيع الذي يطمح لمجتمع نظيف.
إن وتيرة التهجين الرقمي لصغارنا باتت أكثر رعبا من ذي قبل. وبدائل القدوة والتأسي أشد إفلاسا وإفسادا لمعاني الرجولة والنبل والمروءة من ذي قبل، لذا حدثوا أبناءكم عن المعالي!
حدثوهم عن أشرف قدوة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، عن شمائله ورحلة تبليغه للدين!
حدثوهم عن كماله ﷺ الذي التأمت فيه الشخوص في شخص واحد؛ فهو رجل السياسة والحرب، وهو الزوج ورب الأسرة، وهو العابد المتحنث، وهو الإنسان القريب من الناس والمتصل بهمومهم!
حدثوهم عن علماء الأمة وقادتها وأدبائها وأعلامها البارزين في شتى مناحي الحياة. كيف سطروا طموحات وخاضوا في سبيلها كل معترك. وكيف أنهم خلطوا بالإيمان أعمالهم وجهودهم فتكللت بالتوفيق والنجاح!
حدثوهم كيف ترقى المعالي ببشريتهم ليحلقوا في السماء كالملائكة! يقول العلامة المناوي في “فيض القدير”: والإنسان يضارع المَلَك بقوة الفكر والتمييز، ويضارع البهيمة بالشهوة والدناءة. فمن صرف همته إلى اكتساب معالي الأخلاق أحبه الله، فحقيق أن يلتحق بالملائكة لطهارة أخلاقه، ومن صرفها إلى السفساف ورذائل الأخلاق التحق بالبهائم.